السابق الاعلامية الفلسطينية رنا ابو فرحة تنضم لفريق “المغطس “
رابط المقال: https://milhilard.org/ollq
تاريخ النشر: ديسمبر 1, 2021 2:55 م
رابط المقال: https://milhilard.org/ollq
أجرى الحوار بطرس منصور– المغطس
أجرى موقع المغطس الالكتروني مقابلة مطولة مع سيادة بطريرك اللاتين المتقاعد ميشيل صبّاح من مدينة الناصرة تحدث خلالها عن مجموعة من المواضيع الهامه التي تُعنى بالرعيّة.
وقال صبّاح “للمغطس” إنه علينا أن نربي جيل يقبل رسالته حيث أرادك الله أن تحملها بثقة ومحبة حتى نكافح هجرة المسيحيين، مؤكداً أن انقسام المسيحيين هو جرح في جسد المسيح الواحد وتتحمل كل كنيسة مسؤولية شفائه.
وتابع “أن آيات الانجيل المحببة على قلبي هي المتعلقة بالمحبة، لأنها تعمّر كل شيء، وغيابها يدمّر كل شيء. والفتور فيها يصعِّب الحياة في مختلف وجوهها”.
وفيما يلي نص الحوار الذي أجراه بطرس منصور مع سيادة بطريرك اللاتين المتقاعد ميشيل صبّاح
المغطس: لوحظ تراجع كبير لدى المؤسسات المسيحية ومنها الكنيسة اللاتينية في الدعم الصادق للقضية الوطنية. كيف تفسر ذلك وما هو المطلوب من المؤمنين لتغيير الوضع واعادته لما كان عليه اثناء فترتكم؟
القضية الوطنية قضية قديمة وعامة، ولا ترتبط بشخص – الذي إن حضر كانت وطنية، وإن غاب زالت الوطنية. والامر صحيح لاسيما في قضية هذه الأرض المقدسة التي هي قضية صراع بين شعبين. القضية الوطنية مرتبطة بجميع الشعب. صحيح أن توجيهات الرئيس الديني مهمة ولها وزنها. ولكن يجب أن يكون لدى المواطنين ما يكفي من الحس الوطني ليعرفوا واجبهم وان يقوموا به. وهو واجب عام، واجب كل المواطنين، المسيحي والمسلم، والمسيحي في كل الكنائس، وكل فلسطيني أينما كان.
نعرف أن القضية صعبة، وكأنه مستحيل حلها. وقد اتخذت هيئة الأمم المتحدة قرارات لحلها، ولكنها عجزت حتى اليوم عن تنفيذ قراراتها. فالذي يحسم الأمر في هذه القضية هو القوي- إسرائيل. والفلسطيني يقاوم بما يستطيع، ومقاومته تعني على الأقل شيئًا واحدًا: القضية لم تنتهي، والسلام لم يتحقق بعد.
إن لنا حقوقاً طبيعية في أرضنا يجب أن تتحقق، إما الاستقلال وإما المساواة. ومن مصلحة الطرفين طبعاً تحقيق السلام، مصلحة الطرف القوي، إسرائيل، حتى تجدَ أمنها وتنهي صراعاً بدأته منذ أكثر من مئة عام، تنهيه بسلام دائم، ومصلحة الطرف الواقع تحت الاحتلال حتى يستعيد حريته واستقلاله.
أين الكنيسة من كل هذا؟ واجبها أن تنبه المؤمنين لواجبهم تجاه الوطن، وأن الأوضاع الصعبة ليست أوضاعاً للهرب أو للامبالاة، أو لطلب الحياة المريحة بينما يصارع غيرهم. لأن هناك في الواقع البعض الذين يشعرون أنهم مرتاحون ولا يهمهم غيرهم، لا آلام غيرهم، ولا موتهم، ولا عذابهم في الأسر، ولا مداهمة البيوت ولا البيوت المهدمة الخ…
من جهة أخرى الحضور المسيحي موجود في الجهد الوطني العام، البعض في المجهود العام وفي مختلف الأحزاب، والبعض في تجمعات مسيحية، وفي مراكز الفكر المسيحي مثل السبيل والديار واللقاء وكايروس وفي منشورات كلية بيت لحم للكتاب المقدس، وغيرها ترافق المجهود الوطني بروح مسيحية وتنبه المواطن المسيحي لواجبه، وتنبه العالم. وأن هذه الأرض لم تحقق بعد سلامها وأمنها ولا كمالها الإنساني. فهي أرض صراع للمستريح اللامبالي، وللشاعر بحرقة ومرارة الوضع وحرمان الحرية والموت، للذين في السجون، والبيوت المداهمة، والبيوت المهدمة، والمزروعات المتلفة، وعمليات الطعن والمقاومة. على كل مسيحي مثل كل مواطن أن يعمل ليعيد الأمور إلى وضعها الصحيح.
المغطس: التحديات كبيرة في مجال التعليم والمدارس المسيحية. ما هي الأولويات التي تعتقد انه يجب التركيز عليها في مدارسنا المسيحية؟
-هذا صحيح أن التحديات كثيرة في مدارسنا.
عندما تأسست مدارسنا منذ قرن أو قرنين، أو أكثر، فيما يختص ببعض مدارس الفرنسيسكان، كانت غايتها اثنتين: أولا، مشاركة في مجهود التعليم الذي كان غائباً أو ناقصاً حتى بداية القرن العشرين. وهدف أول أيضاً، وليس ثانياً، لمدارسنا هو التربية الدينة المسيحية للمسيحيين. ومع الوقت حملت مدارسنا هاتين الرسالتين. وبرَّزت في الهدف الأول، في التعليم العام، وحققت نتائج باهرة حتى اليوم. أما الهدف الأول أيضاً أي التربية الدينية المسيحية فهي بحاجة إلى مراجعة. اليوم مدارسنا بحاجة إلى مراجعة للذات. نحتاج الى طرح الأسئلة: لماذا نشأنا؟ وماذا حققنا؟ وماذا نحقق اليوم؟ وأية تربية مسيحية نقدم لطلابنا؟ وأي نوع من المسيحيين نصنع؟ وبوجود طلاب مسيحيين ومسلمين في مدارسنا، فهي تتحمل اليوم مسؤولية تربية الإنسان- المسلم والمسيحي على السواء. كل واحد مخلص لدينه، ولكن كل واحد أيضاً مخلص لإنسانيته. الكل إخوة. الأخُوّة الشاملة التي كثر عليها الكلام في هذه الأيام، وهو أمر جيد، مع كثرة الحوار في العالم، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، لقاء ووثيقة الأخوة العامة للبابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب، عام ٢٠١٦ في أبو ظبي. مدارسنا يجب أن تدخل في عالم الحوار هذا، فتعرف كيف تربي المسيحي والمسلم تربية سليمة. المدرسة بتربيتها تبني وتجدد المدينة أو القرية، أو تبقيها في طائفيتها. المدرسة هي التي تبني مستقبلا جديداً، يكون كل واحد فيه سنداً للآخر.
الأولوية اليوم في مدارسنا المسيحية: وقفة، وطرح أسئلة على الذات: أي مسيحي نربي؟ وأي إنسان نربي؟ وأي مستقبل نعد لبلدنا، سواء في إسرائيل أم في فلسطين؟ ولا بد في هذا الوقت المضطرب من “تربية” واضحة تصنع مسيحياً وتصنع إنساناً يقدر أن يواجه تحديات هذا العصر. وهي خطوة يجب اتخاذها في أسرع ما يمكن. وإلا بقينا نراوح مكاننا نخرج طالبات وطلابا كثيرين، ونوزع الشهادات، واما المسيحي فلا يتكوَّن، ولا الإنسان يتكوَّن، والجيل الجديد لا نصنعه. وهذا أمر خطير.
المغطس:كيف تفسر النجاح المنقطع النظير لمجتمعنا في الداخل بالازدياد المطرد للشباب وبالذات الشابات في الحصول على الدرجات العليا وعدد الاطباء الكبير مثلا. من الجهة الثانية- عنف مستشرٍ. كيف تفسر هذا التناقض وهل من نصيحة لنا؟
التهافت على العلم ظاهرة في كل المجتمع الفلسطيني في الداخل وفي الخارج. والحمد لله. وهو إحدى الطرق التي بها سنصل إلى نهاية الصراع الذي نحن فيه، والخروج من نفق نحن فيه، نفق سياسي، وطائفي، وإنساني.
العنف المستشري، من جهتي أشكو أولا نفسي، أي شعبي، وثقافتنا وما يحيط بنا. وهنا أيضا السؤال ماذا صنعت المدارس؟ الأهلية المسيحية والحكومية؟ هذا العنف هو ماضي حملناه جيلا بعد جيل، لم يعالج في دور العلم والمدارس، ولا في المسجد أو الكنيسة، وفي البيوت يتغذى. ما يرويه الكبار يسمعه الصغار، وعندما يكبرون يتصرفون بما يسمعون. وهكذا بقيت في المواطن هذه “القابلية” للاعتداء، سواء على النفس، حين يكون الاعتداء في العائلة نفسها، ولا سيما الاعتداء على المرأة في بيتها، أو على الأباعد. ظاهرة نشكو أنفسنا فيها أولا، ونتحمل جزءًا من مسؤوليتها.
حين يكون الاعتداء على المرأة في بيتها، أو على الأباعد. ظاهرة نشكو أنفسنا فيها أولا، ونتحمل جزءً
لكن السبب الثاني هو في “الحاكم”، الحاكم في إسرائيل. فهو يعرف من يحمل السلاح. ولا يصعب عليه القيام بحملة لجمع السلاح. ولا هو بحاجة إلى ميزانيات لذلك. يحتاج فقط إلى نية صادقة وتبديل سياسة. ولا يحتاج إلى ميزانيات لإيقاف المجرم ومحاكمته. لا سبب يعذر الدولة لأنها لا توقف هذا العنف في الوسط العربي في إسرائيل.
إذاً، في موضوع العنف المتزايد في الوسط العربي في إسرائيل، واجب على البيت أن يربي، وواجب على المسجد والكنيسة وواجب على المدرسة أن تربي، وتصنع إنساناً جديداً. وواجب على الدولة أن تكون صادقة مع جميع مواطنيها، فتضع حداً لعدم القيام بواجبها في هذا المجال.
المغطس: هل من خطوات عملية تنصح باتخاذها لوقف نزيف الهجرة عند المسيحيين؟
هجرة المسيحيين هو موضوع مكرر. الكل يهذي به. والكل يشكو ويرثي لحالتنا. ملاحظة أولى، ليس المسيحيون وحدهم يهاجرون. المسلم يهاجر واليهودي يهاجر. مئات ألوف اليهود بجواز سفر إسرائيلي هاجروا من إسرائيل ويعيشون في أنحاء العالم. ومع ذلك، فإن هجرة المسيحي تبرز، لأن عددنا قليل، فإذا هاجر واحد يظهر ذلك، ويحدث فراغاً.
ما سبب الهجرة؟ السبب الأول والأساسي هو عدم الاستقرار السياسي، والذي ينجم عنه انعدام الأمن الاقتصادي أو الشخصي. لهذا يهاجر اليهودي والعربي المسلم والمسيحي. والفقير يهاجر والغني يهاجر.
السبب الرئيسي للهجرة هو عدم الاستقرار السياسي والذي ينجم عنه انعدام الامن الاقتصادي والشخصي
ماذا على الكنيسة أن تصنع؟ بالواقع الكنائس على اختلافها عملت الشيء الكثير. إسكانات، وتوعية، وجمعيات خيرية، ومدارس…ومثلا، من أحد أهداف جامعة بيت لحم هو توفير فرصة تعليم للشباب في بلدهم، فلا يتوجهون للدراسة في الخارج ثم لا يعودون إلى بلدهم. ومع ذلك فان الذين يدرسون في الخارج كثيرون جداً. ومنهم من يرجع ومنهم من لا يرجع.
وللعلاقات أحياناً بين المسلم والمسيحي تأثير أيضاً. فما زلنا في هذا المجال لم نصل إلى الوضع المثالي. وما زالت أحداث فردية توحي للبعض بعدم الأمان. لكن، يبقى السبب الرئيسي هو عدم الاستقرار السياسي والذي ينجم عنه انعدام الأمن الاقتصادي والشخصي.
أموال المحبة من الكنائس التي ترد مهما كانت لن تقف الهجرة. قد تولد فرصة عمل للبعض. لكنها لا تضمن الأمن الاقتصادي العام، ولا الأمن السياسي.
لهذا للدول أو للكنائس المسيحية المهتمة بالهجرة، والتي ترثي لحالنا، وللعالم كله نقول: ساعدوا في إصلاح سياسات الغرب في بلادنا، حتى تستقر ويستقر فيها الأمن والأمان، وتنتهي الحروب، حروب أهلية بتغذية عالمية، في المنطقة كلها.
ماذا نعمل أيضًا لوقف الهجرة؟ نربي الإنسان المسيحي، المخلص لوطنه، والإنسان الذي لا يخاف، ولا ينسى أنه مسيحي وأنه إنسان قوي، قوي بمحبته، وبثقته بنفسه. وأن الأيام الصعبة ليست أياماً للهرب. بل نقول: اقبل رسالتك حيث أرادك الله أن تحملها، أي حيث ولدت. ومع كل إخوتك قاوم الصعاب…
المغطس: قلت في كلمتكم في افتتاح مؤتمر التجمع المسيحي المنعقد في جامعة بيت لحم أننا نعاني من الاحتلال ومن الانقسام. كيف من الممكن ان نتغلب على الانقسام الداخلي؟
قلت شدائدنا كثيرة، والاحتلال شدة والانقسام شدة. كيف نتخلص من هذا وذاك؟ كل شيء متشابك. الانقسام الفلسطيني مرده الأساسي كيفية مواجهة الاحتلال وعدم الاتفاق على مبدأ واحد وثوابت واحدة. لقد قلت في الماضي- الحزب يوجد للدفاع عن الوطن، فلا يُضحى بالوطن في سبيل الحزب. علاج الانقسام هو عن طريق مراجعة الذات معاً، لوضع مبادئ عمل سياسي مشترك. نحتاج إلى حكام ورؤساء أحزاب زاهدين بالحكم والمصالح. نحتاج الى حكام خدام. في هذه الرؤية يمكن تحقيق وحدة ومقاومة عاقلة وانهاء الانقسام. لكن هذا كلام يبدو خيالاً، زهد وخدمة وهذه ليست من مفاهيم السياسة. لكن هذه هي الطريق. وكرامة الإنسان، والحرية والاستقلال، والعدالة والمساواة، لكل مواطن يجب أن تكون الأفق الذي ننظر إليه، والدليل للجميع.
المغطس: تركز في كثير من كلماتك على دور واهمية المحبة. هل نحن فاقدون لمحبة بعضنا البعض وكيف من الممكن التغلب على ذلك؟ الا ترى ان المحبة أصبح ينظر اليها كضعف؟
بالواقع المحبة هي الأساس في الإنسان، كل إنسان، وليس في المسيحي فقط. الله خلقنا على صورته. والله محبة. فالإنسان أيضا كائن عاقل على صورة الله، وبما أن الله محبة، فالإنسان أيضًا كائن قادر على المحبة مثل الله. االله لم يخلقنا لنتقاتل، بل لنحب بعضنا بعضا، شعوباً وأفراداً وكنائس ومؤمنين في كل الكنائس والديانات. المحبة أساس في الإنسان.
هل نحن فاقدون للمحبة؟ واقع الإنسان، وواقعنا، مزيج. فيه خير وفيه شر. وكذلك المحبة، كثيرون يعرفونها ويعيشونها، وكثيرون يجهلونها. بين الكنائس؟ نحن بحاجة أيضاً إلى مزيد من المحبة. كل واحد منا بحاجة إلى أن يحاسب نفسه. ونحن نعرف أن “المحبة هي كل الشريعة والأنبياء”. يجب أن نحب بعضنا بعضاً حتى لا نصير أمام الله كما قال أشعيا النبي: “ما فائدتي من كثرة ذبائحكم يقول الرب؟ قد شبعت من محرقات الكباش وشحم المسمنات وأصبح دم الثيران والحملان والتيوس لا يرضيني” (أشعيا ١: ١١). علينا أن نعيش المحبة، ولو بقيت كل الهيكليات والانقسامات القديمة بيننا، لتصير صلاتنا مقبولة امام الله، ولنصبح عائلة واحدة في القلوب، إن لم يكن في الهيكليات.
المحبة أصبح ينظر اليها كضعف؟
المحبة قوة. المحبة إخلاص للذات، صِدقٌ أمام الله، الذي جعلنا قادرين على المحبة. المحبة إخلاص للقريب. المحبة قوة. لأن المحبة ليست مشاعر، وعواطف، ولا تخلي عن الحقوق. المحبة فعل إرادة، إرادة الخير لكل أبناء الله، لكل إنسان أتعامل معه، ولكنها أيضا إرادة الخير لنفسي ولما منحني الله من كرامة. فهي أيضا قوة لمقاومة كل شر فيَّ وفي غيري، وهي قوة لا للاعتداء، بل لوقف كل اعتداء على غيري وعلى نفسي. فالمحبة ليست تنازلاً، بل هي قوة تصلح وتصحح. المحبة هي شفاء الأخر من شر فيه، أو مرض فيه. مثل السامري الرحيم في الإنجيل، وجد إنساناً جريحاً، فسعى لشفائه. ومن ثم المحبة تسعى للشفاء في الجسد أو في النفس. هذا يعنى كل مقاومة للشر في كل مجال، وفي الصراع الكبير في هذه الأرض المقدسة. المحبة إرادة الخير، وحيث وجد الشر أجتهد وأبذل قواي لأزيله فيَّ وفي غيري.
المغطس: هناك طائفية وفئوية وحتى تعصب عند المسيحيين مما يقود الى تنمر على الطوائف الصغيرة. هل توافق على هذا وكيف ممكن ان تتعامل الطوائف الصغيرة مع التنمر من الطوائف الكبيرة؟
هذه اللفظة حلوة “التنمر”، لفظة جديدة، لكنها توحي بشيء من العداء، وأيضاً تكشف عن ألم في النفس. وهذا مؤسف. وأرجو ألا يكون أحد نمراً. ولا يشعر أن غيره نمر أمامه. أن يكون المسيحيون منقسمين، هذا واقع وجرح في جسد المسيح الواحد يجب على كل مسيحي وعلى كل كنيسة أو جماعة أن تتحمل مسؤوليتها لشفائه. وفي الواقع هناك تحرك كبير نحو هذا الشفاء في العالم. وهناك حوارات وجهود كثيرة، ويجب علينا جميعاً أن ندخل في هذا الجو من التحرك المسكوني والحوار حتى نسعى إلى الشفاء المنشود.
يجب أن نقبل أنفسنا كما نحن، بتواضع، وبمحبة. ونبحث معاً عن الحقيقة. المحبة والحقيقة معًاً
وأن تكون فينا، في الأرض المقدسة، كنائس كبيرة وجماعات صغيرة، وأن نكون مختلفين ومنقسمين، – مع أننا كلنا عدد قليل، الكبير والصغير – فهذا واقع، ويجب أن نقبل أنفسنا كما نحن، بتواضع، وبمحبة. ونبحث معاً عن الحقيقة. المحبة والحقيقة معاً. وتعاليم السيد المسيح هي دليلنا. وأعظم تعاليمه وصية المحبة، الوصية الصعبة.
وما تسميه بالطوائف الصغيرة، قد تعني الجماعات الكثيرة التي نطلق عليها اسم “المتجددين”. هذا أيضاً واقع أمام محبتنا وبحثنا عن الحقيقة. والواقع أن الكنائس التقليدية في موقف حذر من هذه الجماعات المتجددة والجديدة. فالموقف بيننا يحتاج إلى حوار كثير، حتى نكون مع اختلافنا واختلافاتنا “مسيحيين” أي نتميز بأننا نحب بعضنا بعضاً.
لو كانت المحبة هي المحرك لما تسميه الطوائف الصغيرة والطوائف الكبيرة، لبقي واقعنا على ما هو، نعم، كبيراً أو صغيراً، لكن لتبدلت قلوبنا. المحبة ترى الله وترى أن الجميع أبناء الله في الكنائس وفي الديانات المختلفة. غياب المحبة يفتح الباب على كل أنواع الويلات، يعزلنا عن الله، ويبقينا بشراً فقط. والإنسان وحده العازل نفسه عن الله لا يقدر أن يحب. بل يقدر أن يخاصم. المسيحي يحب، وإن لم يحب فهو غير مسيحي.
المغطس: هناك محاولات جادة في الاردن خاصة للخروج من نظام الإرث المبني على الشريعة ومساواة المرأة بالرجل في موضوع الإرث المسيحي. ما هو رأيك من ذلك؟
المساواة بين كل إنسان وإنسان حق وواجب. وكذلك بين الرجل والمرأة. في الواقع الأحوال الشخصية المسيحية يجب أن تتبع تعاليم الإنجيل، في كرامة كل إنسان ومساواته لكل أخ أو أخت له. والقوانين يجب أن يتم إصلاحها دائماً وبصورة مستمرة في نور “كرامة الإنسان الواحدة” من دون تمييز أو تفرقة بسبب الجنس أو الدين أو أي اعتبار آخر.
المغطس: لا يزال هناك تعصب ديني في شرقنا العربي-الإسلامي وهناك من يرفض تهنئة المسيحين والترحّم عليهم، ماذا تقول لهؤلاء؟
التعصب الديني ينجم عن طريقة فهم الدين، وينجم عن التربية سواء في البيت ام في المسجد أو الكنيسة. وينجم عن أحكام مسبقة متوارثة جيلا بعد جيل.
الذي أقوله للمسيحي وللمسلم في هذا الموضوع هو أن جوهر الدين، كل دين، هو عبادة الله ومحبة كل خليقته. لأنه إن كانت عبادتنا لله صادقة، في كل دين، فنحن نعرف أن الله هو خالقنا جميعاً، وكلنا له، كلنا عِباده، كلنا أبناء الله، المسيحي والمسلم على السواء. فكيف نعبد الله ونقول له: يا رب هؤلاء الناس، الذين ليسوا على ديني، ولو أنهم خليقتك، أنا لا أحبهم، أو اريد الاعتداء عليهم. قال يوحنا الرسول في هذا: “إذَا قَالَ أَحَدٌ إنَّهُ يُحِبُّ الله وَهُوَ لَا يُحِبُّ أخَاهُ كَانَ كَاذِبًا. لِأنَّ الَذِي لَا يُحِبُّ أَخَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ، لَا يَستَطِيعُ أَن يُحِبَّ الله وَهُوَ لَا يَرَاه” (١ يوحنا٤ : ٢٠).
الواقع الذي يحدث مراراً في مفهومنا للدين، كلنا، أن الدين يصبح انتماء إلى جماعة من الناس، إلى طائفة، ونصبح ندافع عن الطائفة، ونحن نظن أننا ندافع عن الله. هذا الخطر الأساسي الذي يهدد كل دين، وهو أن يتحول المؤمن إلى “ابن طائفة”، إلى فرد له جماعته، فيرى جماعته وانتماءه البشري، وينسى الله. نسيانه لله يجعله يعتبر كل من ليس في جماعته غريباً أو حتى عدواً. كل مؤمن، في كل دين، يجب أن يبقى ساهراً، حتى يبقى مؤمناً بالله، لا بتنظيم أو كيان بشري. وعلامة الإيمان الصادق بالله، هي الإنفتاح والترحيب بكل خلق الله، الترحيب بكل آخر، على ديني أو غير ديني.
كل شعب في بلداننا العربية، هم أبناء أرض واحدة وشعب واحد
ثم هناك مشكلة تاريخية واجتماعية بين المسلم والمسيحي. يظن البعض أن المسلمين من أصل عربي وأن المسيحيين من أصل آرامي أو ما شابه. الواقع الشعب الفلسطيني، وكذلك كل شعب في بلداننا العربية، هم أبناء أرض واحدة وشعب واحد. طلع البعض هنا في إسرائيل بالرأي أن المسيحيين آراميون وليسوا عرباً. الواقع كل بلاد الشام أصلهم آراميون، وتكلمنا بالآرامية. وكانت في الوقت نفسه بعض القبائل العربية التي هاجرت من الجزيرة إلى بلاد الشام أو العراق. فالأصل البعيد لجميعنا، المسلم والمسيحي على السواء، هو عربي وآرامي. وتكلمنا باليونانية في زمن الإمبراطورية الرومانية، إلى جانب الارامية أو العربية، وذلك في القرون الأولى حتى القرن السابع، ولا سيما بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية، واستقرار العاصمة في القسطنطينية. وبعد الفتوحات العربية عمت اللغة العربية. كلنا شعب واحد، ولما جاء الإسلام، بعضنا أسلم، العربي والآرامي، وبعضنا بقي مسيحياً وهو أيضاً عربي أو آرامي. كذلك في مصر مثلا، الكل أقباط. المسلم قبطي أي مصري. والمسيحي قبطي أي مصري. ثم اختصت التسمية “قبطي” بالمسيحيين. أما اللفظة الأوروبيية Egypt (وهي تحريف لكلمة قبطي)، فبقيت تنطبق على الجميع حتى اليوم: ما زال الجميع Egyptians أي أقباط.
هذا أولاً، نحن شعب واحد، أسلم بعضنا وظل بعضنا مسيحياً.
وقضية أخرى، بعد الفتوحات العربية، بدأت مسيرة العيش معاً، وكانت فيها في البدء من جهة تفرقة بين مسلم وذمي، وفيها أيضاً اندماج. نعرف مساهمة المسيحيين في حركة الترجمة للفلسفة والعلوم وغيرها….وبدأت المسيرة واستمرت حتى اليوم. وأخذ الناس يعيشون معاً. وتعثرت الأمور مراراً. وتعلمنا شيئاً فشيئاً أن نعيش معاً. واليوم قطعنا شوطاً كبيراً. لكن مع الأسف، ما زال أمامنا طريق طويل، ما زلنا بحاجة لأن نتعلم كيف نعيش معاً، مسيحيين ومسلمين. شعب واحد، بناة لمجتمع واحد، متساوون في الواجبات والمسؤوليات. بيننا اليوم، مسيحيين ومسلمين، صداقة كبيرة، صداقة صادقة، واحترام متبادل صادق، وأظن أن هذا الوجه الصادق في العلاقات، هو الغالب. لكن، كما يحدث دائماً، الصوت الأعلى هو للخلافات. وهناك أحياناً في الواقع أوضاع متوترة. وهناك كذلك فتنة من غيرنا، ويجب التنبه لها واتخاذ الحذر منها … فأن نعيش معاً، هو أمر ما زال علينا أن نتعلمه معاً. المسجد يجب أن يساعد على ذلك، والكنيسة، ورجال الدين في كلا الديانتين، والمدارس، والبيت. يجب أن نتحول جميعاً من طائفيين إلى مؤمنين، مؤمنين بالله، لا بطائفة، وإيماننا بالله، هو الذي يحولنا إلى إخوة. طريقنا طويل، لكن يجب أن نؤمن بأنفسنا وبنعمة الله، أننا قادرون على أن نتعلم أن نعيش معاً. بالرغم من كل الصعوبات والتحديات.
المغطس: يجري مؤخرا في الأردن حضانة للأطفال وهناك مطالبة لتبني الأطفال كيف ترى موضوع التبني؟
التبني هو عمل إنساني. ومسيحياً هو عمل محبة. هو إعطاء فرصة لطفل لا أهل له أن تكون له عائلة، وأب وأم. لكن لا تبني في الإسلام. والطفل الذي لا أهل له يعتبر مسلماً. مع ذلك فهناك حاجة للتبني، سواء لمن يتبنى، أم للطفل. فالأمر بحاجة إلى إعادة نظر. الطفل الذي يولد ثم يتركه أهله، أيا كانوا، هو أولاً طفل، وهو إنسان، لا أحد له، والدولة لا تقدر أن تحل له محل العائلة، كما أن دور الأيتام لا تحل أيضاً محل العائلة. العائلة فقط هي التي تقدر أن تقوم بدور العائلة لطفل متروك، فتوفر له حياة إنسانية طبيعية، وأهمها حنان الأم والأب. هذا عمل إنساني يجب أن تسانده الدولة، ومن ثم يجب أن تجري الإصلاح اللازم في القوانين لتوفير حياة عادية لكل طفل لا أهل له.
المغطس: هناك شعور عند كثير ممن يقرأون توصيات “مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة” الصادر في ٥ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢١، بموضوع المسكونية، انها ترجعنا للخلف وتعيد الحدود بين الكاثوليك عامة في علاقتهم مع الطوائف الاخرى، وبالذات مع البروتستانت على فئاتهم؟
أعرف هذه الوثيقة وعرضت علينا، أي على جميع الأساقفة الكاثوليك في الأرض المقدسة، للنظر فيها ومراجعتها. ليس في هذه الوثيقة تراجع بل توضيح مواقف عملية. وفيها خصوصاً توجيهات للكاثوليك ليحترموا مواقف الكنائس الأرثوذكسية من حيث المشاركة في الأسرار. لأن الكثيرون في الواقع، بسبب تربيتهم في مدارسنا، يميلون إلى قبول الأسرار في كنائسنا. وموقف الكنائس الأرثوذكسية هو أنه لا يجوز المشاركة في الأسرار. وهذا حق. وفي هذه المناسبة جاءت التعليمات الرعوية العملية عامة، في العلاقات بين جميع الكنائس، في العائلات الأربع، التي يحددها مجلس كنائس الشرق الأوسط، أي العائلة الأرثوذكسية البيزنطية، والعائلة الأرثوذكسية الشرقية، (أي الأقباط والسريان والأرمن)، والعائلة الكاثوليكية، والعائلة الإنجيلية البروتستانتية. وكل هذه العائلات موجودة في الأرض المقدسة.
جاءت الوثيقة في ثلاثة أقسام، القسم الأول ثبت واجب الحوار بين الكنائس على اختلافها. والقسم الثاني بيَّن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية العام في هذا الموضوع. والقسم الثالث اشتمل على التوجيهات العملية، في الكنيسة الكاثوليكية في الأرض المقدسة.
وجاء التوضيح الرئيسي فيما يختص بالمشاركة في الأسرار، ولا سيما الإفخارستيا والمعمودية وغيرها. وفي هذا المجال، تعترف الكنيسة الكاثوليكية بصحة الأسرار في الكنائس الأرثوذكسية. أما في الكنائس الإنجيلية فالقضية ما زالت قيد البحث بين الكنيسة الكاثوليكية والجماعات الإنجيلية نفسها، على مستوى عالمي، والحوار مستمر بينها، أذكر على سبيل المثال، لقاء البابا فرنسيس والكنيسة اللوثرية في السويد عام ٢٠١٦، حيث كان ممثل الاتحاد اللوثري العالمي إذاك المطران منيب يونان، بصفته رئيس الاتحاد.
العائلات الكنسية الأربع موجودة في الأرض المقدسة. والعلاقات الإنسانية بينها جيدة والحمد لله، تلتقي وتتباحث في شؤون الكنائس عامة لا سيما الاجتماعية. أما الدراسات المسكونية فقائمة على مستوى عالمي، لا محلي.
تجمعات صلاة عامة، وأعمال خيرية، وتوحيد مواقف في أوضاعنا السياسية غير المستقرة، فهذا كله مطلوب وواجب.
أعود إلى المشاركة في الأسرار، الكل متفق على أن المشاركة في الأسرار هي علامة الوحدة الكاملة بين الكنائس. ويجب أن نعترف ولا نخاف من الاعتراف بواقعنا: فنحن في حالة انقسام، ولسنا في حالة وحدة كاملة. ومن ثم لا تجوز المشاركة في الأسرار بيننا، وخصوصاً الإفخارستيا. أما المشاركة في مجالات الحياة العامة، فتجمعات صلاة عامة، وأعمال خيرية، وتوحيد مواقف في أوضاعنا السياسية غير المستقرة، فهذا كله مطلوب وواجب.
المغطس: ما هي الآية من الكتاب المقدس التي تحبها أكثر شيء ولماذا؟
كل ما يتصل بوصية المحبة. الوصية الشاملة. والوصية الصعبة. لكنها وصية الحياة المسيحية، ووصية الحياة للبشرية أيضاً كيفما فُهِمت الحياة، ومهما كان الإيمان أو المعتقد. لأن المحبة تعمّر كل شيء، وغيابها يدمّر كل شيء. والفتور فيها يصعِّب الحياة في مختلف وجوهها.
الآيات في المحبة كثيرة، أذكر منها قول السيد المسيح:
” أعطيكم وصية جديدة: أحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أحبوا أنتم أيضاً بعضكم بعضاً. إذا أحب بعضكم بعضاً عرف الناس جميعاً أنكم تلاميذي” (يوحنا ١٣: ٣٤-٣٥).
وأيضاً، آيات من القديس بولس: “لأن تمام الشريعة كلها في هذه الوصية: أحبب قريبك حبك لنفسك (غلاطية ٥: ١٤)
كل الشريعة والوصايا، كل الكنيسة في هذه الوصية، لذلك قال القديس أغسطينوس قوله الشهير: أحبب واصنع ما تشاء. لأن من أحبَّ الله حباً صادقاً أحبَّ كل إخوته وأخواته، ومن ثم تجنَّب طبعاً كل شر وإساءة، أمام الله أو تجاه الناس.
ومن القديس بولس أيضاً: “إِنَّ مَحَبَةَ الله أُفِيضَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي وُهِبَ لَنَا” (روما ٥: ٥).
ومن رسالة القديس يوحنا الأولى: “وَصِيَّتُهُ أَن يُحِبَّ بَعضُنَا بَعضاً كَمَا أَوصَانَا. فَمَن حَفِظَ وَصَايَاهُ أقَامَ فِي الله وَأقَامَ الله فِيهِ” (١يوحنا ٣: ٢٣-٢٤).
المحبة فينا هي حضور الله فينا، وإذا حضر الله فينا، صرنا المؤمنين الذين قال فيهم السيد المسيح إنهم يقدرون أن ينقلوا الجبال. وأن يصنعوا الخير الكثير. ومجتمعنا بحاجة إلى محبة، وإلى نقل جبال، وتغيير الأحوال.
المغطس: شكرا لك سيادة البطريرك على المقابلة الشيقة والاجابات الشاملة. ندعو لك بالصحة وبعيد ميلاد مجيد وسنة جديدة مباركة.
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.