Skip to content

من كتاب “نحو ذهن متجدد:-محبة جارنا اليهودي: مواجهة الاستعلاء اليهودي

رابط المقال: https://milhilard.org/dryj
تاريخ النشر: مارس 24, 2022 12:08 م
صورة جون منير

جون سليم منيّر

رابط المقال: https://milhilard.org/dryj

بقلم: دانيال منيّر وجون منيّر

الملخص

تسعى المقالة الآتية إلى تحدي الفهم التقليدي لمحبة القريب في السياق الإنجيليّ الفلسطيني. وتتساءل المقالة بأكثر تحديدٍ عما يعنيه بالنسبة للمسيحيين الفلسطينيين أن يحبوا جارهم اليهودي، عندما يكون لدى اليهودي نظرة الاستعلاء في الإيديولوجيا واللاهوت. وتناقش المقالة بأن جزءًا من مسؤوليتنا، بصفتنا إنجيليّين فلسطينيين، هو محبة جيراننا اليهود من خلال تحدي الاستعلاء اليهودي ورفضه (وأي استعلاء في هذا الشأن). وإننا عندما نعمل ذلك، لا نحرر أنفسنا كفلسطينيين من أنظمة المعتقدات القمعية فحسب، بل نحرر جيراننا اليهود من الانغماس في مثل هذه الأفكار الضارّة وغير الكتابية. إنه من خلال مساءلة بعضنا البعض فقط، يمكننا حقا أن نحب بعضنا البعض. تبدأ المقالة بالنظر في جذور الاستعلاء اليهودي، ثم تبحث في تعامل يسوع مع تفكير الاستعلاء، وتُقدّم، أخيرًا، خطوات عملية لمحبة اقربائنا اليهود في هذا الإطار.


المقدمة

لقد قرأنا جميعًا وسمعنا وصية يسوع الشهيرة “تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ” (متى 22: 39). لكن ماذا تعني، وكيف تبدو محبة القريب اليهودي في السياق الإنجيليّ الفلسطيني؟ يصبح هذا السؤال أكثر أهمية عندما يتبنى العديد من اليهود الإسرائيليين أيديولوجية وعقيدة عنصرية ومتفوقة، تجاه الفلسطينيين وغير اليهود. لقد أثار في الآونة الأخيرة، العديد من الصحفيين والمفكرين اليهود الإسرائيليين اليساريين، موضوع استعلاء اليهود في عدد من المقالات.[i] وقد أشاروا بأن الاستعلاء اليهودي يكتسب شعبية في المجتمع والسياسة اليهودية الإسرائيلية.

على سبيل المثال، وفقًا لاستطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في عام 2019، “يؤيد أكثر من نصف (54٪) اليهود الإسرائيليين، رفض حق التصويت، لأولئك الذين يرفضون الاعتراف بأن إسرائيل هي الدولة القومية لليهود. ويعتقد 43٪ من اليهود الإسرائيليين، أنه يجب السماح للعرب الإسرائيليين بشراء الأراضي فقط في الأحياء العربية. ويقول 22٪ من الإسرائيليين، إنه لا ينبغي السماح لعرب إسرائيل بشراء أرض في إسرائيل على الإطلاق”.[ii] وتعكس هذه الإحصائيات موقف اليهود الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل. فكم بالحري سيكون موقفهم من الفلسطينيين الذين يقطنون في الضفة الغربية وقطاع غزة.

كيف نردّ إذًا على هؤلاء اليهود الذين لديهم نظرة استعلاء دينية، وعرقية، وقومية وثقافية تجاهنا؟ كيف لنا أن نردّ على هذه النظرة بالمحبة؟ المحبة هي أكثر من مجرد عاطفة، أو الشعور بالرضا والصداقة، كما قد تُعلّمنا إياه ثقافتنا، بل قد تكون أيضًا تحدّيًا وتأديبًا. يمكننا أن نرى هذا الشكل من المحبة في خدمة يسوع، عند توبيخه التعليم والسلوك الخاطئ. كما واستخدم يسوع في بعض الأحيان لغة قوية وعدوانية، إضافة إلى قلب الطاولات أثناء إبعاد الناس بالسوط.(يوحنا 2: 15) تم ذلك بالطبع بدافع المحبة التي تقدّم التحدي للآخر. على سبيل المثال، عندما يرتكب أحد أفراد الأسرة أفعال الظلم، أو يؤيد أفكارًا بغيضة، فإننا نتحداه غالبًا بسبب رؤية الخطأ في أفعاله، أو القمع في آرائه. ويمكن تجلّي المحبة كتصحيحية، وأن تكون مزعجة وغير مريحة، لكنها تبقى محبة.

كذلك الأمر، عندما نحب قريبنا اليهودي، يتوجب علينا أن نشمل جوانب المحبة الصعبة والتصحيحية والتأديبية. خاصةً عندما يتوجب تحدّي أيديولوجية الاستعلاء، أو لاهوت بعض اليهود الإسرائيليين المدافعين عن أي نوع من الاستعلاء على إنسان آخر، بما لا يتوافق مع خليقة الله، فقد خُلقنا جميعا متساوين وعلى صورته. يعارض اليهود العنصريون فكرة المساواة هذه، لأنهم ينظرون إلى الفلسطينيين على أنهم أقل مما خلقهم الله أن يكونوا.

لقد تغلغلت، ولسوء الحظ، إيديولوجية الاستعلاء اليهودي واستعلاء لاهوتهم في الكنائس المعروفة بالكنائس الإنجيليّة الحرّة الفلسطينية. ورغم كونهم فلسطينيين، وعلى الرغم من أن هذه الأيديولوجيا وهذا اللاهوت العنصري يدّعي بأنهم أدنى من اليهود، فلقد تبنى بعض الفلسطينيين من هذه الكنائس هذه النظرة القمعية. تعود هذه الظاهرة جزئيًا إلى قيام الصهاينة المسيحيين الغربيين بترويج الاستعلاء اليهودي بين المسيحيين الفلسطينيين. ولا يقتصر هذا بالطبع على السياق المسيحي الفلسطيني فقط، بل ينطبق أيضا على جميع المسيحيين العرب، الذين يعتقدون أن هويتهم، وتراثهم، وثقافتهم، عرقهم وتقاليدهم الدينية يقبعون في مرتبة أدنى من الثقافة الغربية. وبالطريقة نفسها، تبنّى بعض المسيحيين الفلسطينيين التفرقة والمواقف العنصرية تجاه مجموعات أخرى من الناس، سواء كانوا مسلمين أم يهودًا، أصحاب البشرة الداكنة أو الآسيويين.

لهذا السبب، سوف نجادل في هذه المقالة، بأننا نحن المسيحيين الإنجيليّين الفلسطينيين، بحاجة إلى تحدي زملائنا وأقربائنا اليهود الذين هم من دعاة الاستعلاء اليهودي. هذا التحدي يجب أن يصدر من منطلق محبتنا لهم ولأنفسنا. علينا معًا أن نلقي الضوء على بدعة الاستعلاء اليهودي. إضافة إلى ذلك، تدعو هذه المقالة أيضًا المسيحيين الإنجيليّين الفلسطينيين الذين اعتنقوا هذه النظرة، إلى إعادة التفكير في موقفهم، وفهم طبيعتها المناقضة للإنجيل. ورغم أن هذه المقالة تتناول السياق الفلسطيني والاستعلاء اليهودي، إلا أننا نرغب أيضًا في فتح حوار أوسع حول أي شكل من أشكال الاستعلاء في العالم العربي. سواء كان ذلك يرتبط بلون البشرة، أو الجنس، أو الدين، أو أي نوع آخر من أنواع الاستعلاء.

الاستعلاء اليهودي

إن الاستعلاء اليهودي في السياق الفلسطيني، هو طريقة تفكير أو سلوك، سواء كان بوعي أم بغير وعيٍ، والتي تعتبر اليهود أسمى من الفلسطينيين، على أساس الدين أو العرق أو كليهما. وهذا يعني، إن أي موقف يروّج لعدم المساواة الروحية أو القومية بين المجموعتين في فلسطين/إسرائيل، يحمل أيديولوجية أو لاهوتًا يهوديًا عنصريًا. دعونا نستعرض بإيجاز مصادر الاستعلاء اليهودي ونربطها بسياقنا المعاصر.

يمكن تقسيم مصادر الاستعلاء اليهودي المعاصر إلى قسمين. الأول هو الحركة الصهيونية، أمّا الثاني فيتألف من مواقف لاهوتية ثابتة داخل اليهودية الحاخامية.

كان جوهر الحركة الصهيونية الأساسي هو خلق “اليهودي الجديد”.[iii] فقد سعت هذه الحركة القومية التي تأسست حديثًا في أواخر القرن التاسع عشر إلى تخليص نفسها من هوية اليهودي السابقة كـ”يهودي المنفى”، والتي تمثّل في نظر العديد من الصهاينة بالقمع، والضعف، والعمى، والسذاجة والتخلف. أمّا اليهودي الجديد فيمثل عهدًا جديدًا أصبح اليهود فيه مثقفين ومتقدمين وأقوياء، وفي طليعة المجتمع.[iv]

تم إنشاء هوية اليهودي الجديد بطريقة متناقضة تمامًا مع هوية اليهودي في المنفى. ومع ذلك، في حين تصورت الحركة الصهيونية أن اليهود الجدد سيكونون النقيض التام ليهود المنفي، فقد رأت أن للفلسطينيين والعرب أيضًا الهوية المناقضة لليهودي الجديد. بمعنى آخر، رأت الصهيونية أنه إذا كان اليهودي الجديد يمثل كل ما هو جيد ومتقدم وقوي، فإن الفلسطيني والعربي يشبه كل ما هو سيء ومتخلف وضعيف. وهذه هي إحدى الأسباب رفض الصهاينة الأوروبيين الذين قاموا ببناء الهوية لليهودي الجديد لإخوانهم اليهود العرب الذين أتوا من البلدان الناطقة بالعربية. فكان وما زال اليهود العرب يمثّلون ما يحاول اليهودي الجديد طمسه.[v] وقد أصبحت هذه الأيديولوجيا الصهيونية جزءًا من الهوية اليهودية الإسرائيلية اليوم، إيمانًا منها بتفوّقها على الفلسطينيين.

تعود جذور المصدر الأول للاستعلاء اليهودي إلى الحركة الصهيونية، في حين يرتكز المصدر الثاني على مواقف لاهوتية معينة داخل اليهودية الحاخامية. نحن لا ندّعي أن جميع أشكال اليهودية تتوافق مع الاستعلاء اليهودي، ونعترف بوجود تنوع الأصوات داخل اليهودية، ولكن الحق يقال، أن هذه الفكرة تسود لدى العديد من المدارس الحاخامية الفكرية. هناك مبدأ أساسي في معظم تفسيرات اليهودية الحاخامية والذي يميّز بين اليهود وغير اليهود. على سبيل المثال، تضع “الهالاخا” (الناموس اليهودي) غير اليهود في نظام قانوني مختلف تمامًا يسمى قوانين نوح (سُمّيت على اسم أبناء نوح). وقد ادعى عددٌ من المفكرين اليهود الحاخامين بأن هذه القوانين عالمية وتشمل جميع غير اليهود. وفي حال عدم قبولها ورفضها من قبل غير اليهود الذين يعيشون في الأراضي اليهودية، فانهم معرّضون لعقوبة الإعدام.[vi] وأما إذا قبل غير اليهود قوانين أتباع نوح، فإنه تفرض عليهم جزية التي يجب دفعها إلى السلطة اليهودية.[vii]

 هذا التمييز بين اليهود وغير اليهود في نظام القانون الحاخامي يقوم على أساس فكرة الشعب المختار. وفقًا لبعض اللاهوتيين اليهود، توجد لليهود طبيعة إلهية يحددها الدم وحده، وليس الإيمان أو الأفعال.[viii] وذهب آخرون بالتمييز إلى حد القول بإن الروح اليهودية أعظم من الروح غير اليهودية.[ix] ويعتبر العديد من اليهود المتدينين أنفسهم متفوقين روحيًا على غير اليهود، وبأنهم سفراء ارادة الله على الأرض.

من المهم أن نلاحظ أن اليهودية الحاخامية أصبحت أكثر عداءً للمسيحيين في التاريخ الحديث. وبحسب كارما بن يوحنان، وهي باحثة في العلاقات اليهودية المسيحية، إن عددًا من الحاخامات قد تكلّموا بعدائية أكثر تجاه المسيحيين منذ قيام دولة إسرائيل.[x] وتدّعي أن سبب زيادة العداء يعود إلى التغيير في تفاعل القوى بين اليهودية والمسيحية. وهذا يعني أن اليهود ليسوا بعد خاضعين للسلطات المسيحية، فلقد أصبح لهم وطنهم. وعلى هذا النحو أصبح اليهود أحرارًا في التعبير عن آرائهم وبسط حكمهم بأنفسهم. في كلتا الحالتين، إن هذه الزيادة في العداء تعود للفكرة الدينية عن الاستعلاء اليهودي.

اذًا، لا ينبغي أن يكون مفاجئًا لنا اليوم كفلسطينيين، بأن نشهد استمرار النكبة، والتطهير العرقي، والمذابح، والاحتلال العسكري، ونقاط التفتيش، وسرقة الأراضي، وقانون الدولة القومية، والعنصرية. كل هذه النتائج مرتبطة بالاستعلاء اليهودي. وقد قامت منظمة “بتسيلم” (B’Tselem) في أوائل عام 2021، وهي منظمة إسرائيلية رائدة في مجال حقوق الإنسان، بوصف النظام الإسرائيلي (بما في ذلك الضفة الغربية وغزة) بأنه نظام فصل عنصري.[xi] وهو نظام غير عادل يقوده مبدأ أساسي، “تعزيز وترسيخ سيادة مجموعة – اليهود – على الأخرى – الفلسطينيين”.[xii] لا نحتاج إلا لرفع رؤوسنا كي نرى بأن الحركات الاستعمارية الاستيطانية التي تضطهد وتميّز السكان الأصليين (في حالتنا الصهيونية والفلسطينيين) في جميع أنحاء العالم، تحتاج إلى أيديولوجية ولاهوت متعصب يميّز على أساس العرق والدين من أجل شرعنة كيانهم الوحشي.

يسوع ولاهوت وايديولوجية الاستعلاء

دانيال منيّر

إن الهدف الرئيسي من هذا القسم، هو توضيح كيف أن الاستعلاء اليهودي، كأي نوع من أنواع الاستعلاء، يتعارض مع رسالة الإنجيل. وإنه من المهم أن نلاحظ أن الاستعلاء اليهودي اليوم يختلف عن الاستعلاء اليهودي في القرن الأول في زمن المسيح. ورغم ذلك، یمكننا أن نلاحظ كیف یتعامل الإنجيل مع الاستعلاء اليهودي في القرن الأول. من هنا، من الضروري الاطّلاع على النصوص الكتابية وتفسير معناها في سياقنا الحالي، مما يجعل المسيح ذو صلة بموضوع التعامل مع الاستعلاء اليهودي الحالي، المتجذر في الصهيونية الأوروبية واليهودية الحاخامية.

يمكننا أن نرى في إنجيل يوحنا (يوحنا 8: 31-59)، أحد المشاهد التي تصوّر يسوع بوضوح في مواجهته الاستعلاء اليهودي في القرن الأول. نرى في هذا المشهد حوار يهودي داخلي بين يسوع ومجموعة من اليهود حول الخطيئة والحق والحرية من ثم تحوّل الحديث إلى نقاش يشمل استعلاء اليهود وسلطة يسوع. حثّ يسوع هؤلاء اليهود على التمسك بتعاليمه، وبالحقيقة التي تنص على أن حقه سوف يحررهم. فأجابوا: “إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَارًا؟” (يوحنا 8: 33). أصرّ اليهود أثناء الحوار أن أبوهم هو إبراهيم، وأنهم ليسوا أولاد زنا: “إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِنًا”. بالمقابل اتهموا يسوع بأنه سامري وبه مسّ من الشيطان.(يوحنا 8: 39، 41، 48) هناك الكثير مما يمكن الكشف عنه في هذا المشهد، ولكن الأمر الذي يهمنا مناقشته، هو ادعاء هؤلاء اليهود في القرن الأول أنه نظرًا لانحدارهم من نسل إبراهيم، فإن أصلهم العرقي والديني يمنحهم امتيازات روحية خاصة، ومكانة النخبة. هنا يمكننا أن نرى صفات متشابهة بين اليهود في هذا المشهد، واليهودية الحاخامية المعاصرة في إسرائيل في عام 2021، ويؤكد كلاهما على مكانة النخبة الروحية لليهود مقارنة بغير اليهود.

يمكننا أن نتعلم من الملاحظات التالية في إجابة يسوع: أولًا، أجاب يسوع بالتشديد على حقيقة مساواة جميع البشر في رتبة واحدة، “… إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ…” (يوحنا 8: 34) ومن ثم أضاف: ” وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ …” (يوحنا 8: 35) وضع يسوع منذ البداية شروطًا متساوية للتعامل مع الله، واقترح أن قدرتنا على المشاركة في عائلة الله تعتمد على قدرتنا في الاستجابة له، ولا تمت بصلة لانتمائنا العرقي والديني أو لتاريخ عائلتنا. تتناقض تصريحات يسوع هذه مع بعض التعاليم اليهودية الحاخامية التي تنص على تفوّق اليهود بسبب نَسَبهم، وأنهم بعلاقة فريدة مع الله مقارنة بالأشخاص من أصول أخرى.

ثانيًا، تحدّى يسوع هويتهم، وناقش المصدر الأيديولوجي لتفوقهم اليهودي. صرّح يسوع على نحو مباشر: ” لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ…. ” (يوحنا 8: 39-40) لقد تحدّى المسيح هويتهم قائلًا: ” اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلاَمَ اللَّهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّهِ” (يوحنا 8: 47) يرفض يسوع الأشخاص الذين يدّعون أن لديهم هوية تفتخر بأصلها العرقي والديني، خاصة عندما تأتي على حساب القريب. كما رأينا، أتّهم اليهود يسوع بكونه سامري. وهذا النعت يعد بمثابة لعنة لليهود، إذ صنفوا السامريين والأفراد المملوئين بالشياطين في الفئة ذاتها. رفض يسوع ذلك، وتجاهل تعليقاتهم العنصرية، واستمر في تكريس جزء كبير من خدمته للسامريين (يوحنا 4: 39) وعلى نحو مشابه لما فعله يسوع، علينا نقد وتحدي جذور ايديولوجية الاستعلاء في هوية الصهاينة الأوروبيين. أي هوية تدّعي تفوّق اليهود على الفلسطينيين وتدّعي عدم كون العرب أبناء لله تتعارض مع تعاليم المسيح.

ثالثًا، أعلن يسوع الحق بشأن دوره، ورسالته وهويته فيما يتعلق بأبيه. يمكن ملاحظة ذلك من خلال ذات الحوار عندما يذكر يسوع علاقته المترابطة مع الآب. لقد ترسخ يسوع في رسالته، وعرف أنه يكرّم الآب بينما كان الآب يمجده. وبالطريقة نفسها، يجب على الفلسطينيين الذين يعانون من أبعاد الاستعلاء اليهودي أن يتذكروا مهمتهم في الأرض المقدسة. نحن هنا لكي نتشارك في ملكوت يسوع من خلال العمل من أجل العدل والسلام.

لتلخيص هذا القسم، يجب أن نتذكر هويتنا كأبناء الله، وألا نقبل أبدًا الأيديولوجيات العنصرية، والتصنيف الفئوي والسياسات والمعاملة التي أظهرها الصهاينة الأوروبيين وبعض حاخامات اليهود. يجب أن نتكلم ونؤمن بحقيقة الإنجيل – فنحن جميعًا متساوون في نظر الله، وهو لا يُظهر المحاباة (رومية 2: 1).

أنا حارس لأخي

الآن وبعدما أوضحنا الاستعلاء اليهودي وتناقضه مع رسالة الإنجيل، يقترح هذا القسم بعض الأساليب والطرق العملية التي يمكن من خلالها للكنيسة الإنجيليّة الفلسطينية أن تحب قريبها اليهودي.

أولًا، بصفتنا فلسطينيين، سنكون أكثر قدرة على محبة أقربائنا اليهود عندما نتعلّم أن نحب ونحتضن أنفسنا. هذا يعني رفض الموقف أو المكانة أو الدور الأدنى الذي يفرضه علينا الصهاينة الأوروبيين واليهود الحاخاميين، وأحيانًا المسيحيون الغربيون. نحن لسنا “الأخ الأصغر” لليهود، ولسنا “أبناء إسماعيل” (غلاطية 4: 21-31)، ولسنا مجرد عرب صادف وجودنا في “يهوذا والسامرة”. ويعني هذا رفض السماح لأقربائنا اليهود، والمسيحيين الغربيين الذين يقومون بزيارات للبلاد، بتحديد هويتنا. نحن المسيحيون الفلسطينيون، السكان الأصليون في هذه الأرض، والحراس الأصليون للأماكن المقدسة، التي كانت ولا تزال تشهد ببشارة الإنجيل منذ آلاف السنين. لا ينبغي أن ندع مضطهدينا يحددون كياننا. لأننا متأصلون في تراثنا وهويتنا التي تعود إلى الكنيسة الأولى وسفر أعمال الرسل. فقد صمدنا على هذا النحو خلال فترات عديدة من الحكام والإمبراطوريات والظالمين. ولذلك فإن هويتنا الفلسطينية والمسيحية مصدر قوة وجمال.

ثانيًا، علينا أن ندرك بأننا نحن الفلسطينيين، مفتاح لتحرير أقربائنا اليهود من هويتهم القامعة لغيرهم. لا نرى مفر من الترابط بين مصير الفلسطينيين واليهود في الأرض المقدسة. فنحن الجيران مرآة لبعضنا البعض، ومسؤولون عن محاسبة بعضنا البعض. إن رسالتنا نحن الفلسطينيين هي أن نكشف خدعة الحلم القومي الصهيوني (وكذلك بعض النظريات الفلسطینیة القومية التي تتعارض مع الإنجيل)، لأن الحلم الصهيوني هو كابوس فلسطيني. والأهم من ذلك، يجب أن نسأل أنفسنا، أين الله اليوم في سياق حياتنا؟ لم تكشف رسالة الإنجيل عن نفسها من خلال شخصيات قوية ومنتخبة، ولكن من خلال الأفراد المهمشين والمضطهدين، الذين يعيشون في ظروف متواضعة. بشكل مشابه، يتم الكشف عن رسالة الإنجيل في الأرض المقدسة في القرن الحادي والعشرين من خلال المظلومين، الذين في معظم الحالات هم من الفلسطينيين. ورغم الضغوط القمعية فعند التعامل مع اليهود، علينا ألا نفصل المحبة عن العدالة، والمصالحة والتحرير. حقًا، يقدّم هذا الصراع للفلسطينيين وللكنيسة الإنجيليّة الفلسطينية فرصة أخلاقية ضخمة لإيصال رسالة يسوع إلى العالم.

ثالثًا، توجد العديد من المنصات والفرص العملية للكنيسة الإنجيليّة الفلسطينية لكي تحب أقربائها اليهود. أولًا، من خلال برامج المصالحة والسلام. تعتبر خدمة “مصالحة” ومؤسسة “هولي لاند ترست” (Holy Land Trust) على سبيل المثال، منظمتين تعملان في هذا المجال. نحن على ثقة من أن هذه المنصات تكشف اليهود الإسرائيليين إلى قصة حياة الفلسطيني بطريقة متساوية وصحيّة. وبكلمات أخرى، يمكن للفلسطينيين المشاركة في هذه البرامج دون المساس بهويتهم والتزامهم بالعدالة. إضافة إلى ذلك، يكون لدى المرء فرصة لاكتشاف نفسه، بواسطة عملية المصالحة والتعرف على قريبه. ثانيًا، نحتاج إلى المشاركة ودعم منظمات المُناصَرة (advocacy) التي تدافع عن العدالة والسلام. تشمل المنظمات الناشطة في هذا المجال، مؤتمر “المسيح أمام الحاجز”، و”مركز السبيل”، و”كايروس فلسطين”. وتحاسب هذه المنظمات جيراننا اليهود أخلاقيًا وروحيًا.

هذه ليست الطرق الوحيدة للتواصل مع جيراننا اليهود، إذ يمكن للمرء أن يتبع شتى الطرق وأنماطًا أخرى للتعامل مع جيراننا اليهود، طالما يلتزم التفاعل بالعدل والرحمة.

للتلخيص، نحن حراس لأخوتنا، ونحن مسؤولون عن مواجهة خطيئة جيراننا اليهود المتمثلة في الاستعلاء اليهودي. إن دماء الفلسطينيين المظلومين تصرخ من الأرض مطالبة بالعدالة والكرامة والتحرير. وتقع على عاتق الكنيسة الإنجيليّة الفلسطينية مسؤولية الرد على كلا الوضعين على التوالي.

خاتمة

للختام، على الكنيسة الإنجيليّة الفلسطينية محبة جيراننا اليهود من خلال فضح عقيدة تفوقهم اليهودي ورفضه، لأنها تتعارض مع خدمة يسوع وتعاليمه. يجب الإشارة أيضًا، وربما في مقالة أخرى، إلى أن بعض مفاهيم الاستعلاء اليهودي، يجري الترويج لها من قبل المسيحيين، فهي مرتبطة أيضا باستعلاء العنصر الغربي الأوروبي الأبيض. على هذا النحو، فهذا الموضوع لا يتعلق بالسياق الفلسطيني فحسب، بل بالسياق الشرق أوسطي بأكمله. هذا السياق بحاجة إلى مزيد من الفحص اللاهوتي والتاريخي.

إضافة إلى ذلك، نظرًا لتحدينا للاستعلاء اليهودي في هذا المقال، لا يمكننا نحن الفلسطينيين أن ننافق فلا نفحص شعور تفوقنا المسيحي الفلسطيني. بالطريقة نفسها التي نعارض بها أي أيديولوجية أو لاهوت استعلاء يهودي، يجب علينا أيضًا أن نعارض أي أيديولوجية فلسطينية مسيحية، أو لاهوت استعلاء على اليهود أو المسلمين. كثيرًا ما نسمع في الكنائس الإنجيليّة خطابًا معاديًا للمسلمين، حيث يعتقد المسيحيون الفلسطينيون أنهم متفوقون في أبعاد كثيرة على جيرانهم المسلمين. وفي هذا الصدد، فإن أي فرد أو جماعة معرضة لخطيئة الاستعلاء العرقي أو الديني. هذا هو سبب احتياجنا لمساءلة بعضنا البعض، والإشارة إلى أخطاء بعضنا البعض. إن النقد والمواجهة الصحيّة مطلوبان في جسد المسيح.

لذلك، دعونا نحب بعضنا البعض، وأن نحب كذلك أخوتنا وأخواتنا اليهود والمسلمين، من خلال تحدي أي عقيدة أو أيديولوجية تعزز استعلاء مجموعة على أخرى. إنه من خلال تعزيز ثقافة المحبة هذه، ومن خلال المساءلة بالتحديد، سنتمكن من رؤية مستقبل أفضل لجميع الناس في فلسطين وإسرائيل والشرق الأوسط. “وَالنِّهَايَةُ، كُونُوا جَمِيعًا مُتَّحِدِي الرَّأْيِ بِحِسٍّ وَاحِدٍ، ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ، مُشْفِقِينَ، لُطَفَاءَ، غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِالْعَكْسِ مُبَارِكِينَ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لِهَذَا دُعِيتُمْ لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً” (1 بطرس 3: 8-9).


[i]Gideon Levi, “The Jewish Republic of Israel”, Haaretz, 10.10.2010; Aluf Benn, “What the Left Should Learn from Netanyahu if It Wants to Win”, Haaretz, 03.09.2020; Ravit Hecht, “For Real Change, the Zionist Left Must Drop Its Sense of Jewish Supremacy”, Haaretz, 13.04.2019; Anshel Pfeffer, “How Netanyahu Revived Jewish Supremacism and Paved Its Way to Power”, Haaretz, 24.02.2019.

[ii] The Israel Democracy Institute, “Conditional Partnership 2019: Relations between Jews and Arabs in Israel”, 22.09.2019.

[iii]Arye Naor, “Jabotinsky’s New Jew: Concept and models”, Journal of Israeli History, 30:2, (2011): 142.

[iv]Oz Almog, The Sabra: The creation of the new Jew (University of California Press, 2000).

[v]المرجع نفسه، 99.

[vi]Rabbi Maimonides, Moses. Mishneh Torah, Laws of Kings and Wars. Translated by Reuven Brauner (2012). https://halakhah.com/rst/kingsandwars.pdf, 13:8.

[vii]Mishneh Torah, Laws of Kings and Wars, 6:1.

[viii]Halevi, Judah. Sefer Kuzari. Translated by Hartwig Hirschfield (1905), 101:1.

https://www.sefaria.org.il/Sefer_Kuzari.1?ven=Kitab_al_Khazari,_translated_by_Hartwig_Hirschfeld,_1905&lang=bi.

[ix]Rabbi Zalman, Schneur of Liadi. The Tanya. Elucidated by Rabbi Yosef Wineberg. Published by Kehot Publication Society.

https://www.chabad.org/library/tanya/tanya_cdo/aid/7880/jewish/Chapter-1.htm

[x]Karma Ben Johanan, A Pottage of Lentils: Mutual Perceptions of Christians and Jews in the Age of Reconciliation (Tel Aviv: Tel Aviv University Press, 2020).

[xi]بتسيلم، “نظام سيادة يهودية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. هذا فصل عنصري” (12 كانون الثاني 2021).

[xii]المرجع السابق، 1.

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

Skip to content