السابق مطالبات بإطلاق سراح السجناء في فلسطين من مطارنة وشيوخ- في النشرة الأسبوعية رقم 47
رابط المقال: https://milhilard.org/4cv5
تاريخ النشر: أكتوبر 21, 2022 12:02 م
باحث في العلوم الانسانيةعضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات و الابحاث الانسانية /المغرب مقيم حاليا بالولايات المتحدة الامريكية
رابط المقال: https://milhilard.org/4cv5
كتب لـ ملح الأرض: محمد سعيد: باحث في العلوم الإنسانية، وعضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية (مدى)
ما هو التسامح؟ وما غاية التسامح؟ ولماذا نحتاج إلى التسامح؟
التسامح هو القبول المتبادل، وليس التساهل مع الطرف الأخر من مبدأ انا المحق ولكنني أقبل بك، التسامح عملية عطاء وأخد، فتسامحك معي يقابله نفس الفعل من قبلي، لست مخطأ ولست مصيباً، نخضع لقانون وضعي يسري علي كما يسري عليك، أنا المتدين أو غير المتدين، تقبلني ليس منة منك، وأنت الملحد أقبلك ليس تفضلاً، كلنا سواء أمام دولة الحق والقانون، فخطاب السماء الذي تعتنق ليس صكا على بياض، و لا يمنحك حق الوصاية على غيرك من المخالفين، فعلاقتك الروحية خاصة بك، ولست مرغما على القبول بها لتقبل بي، ولست أرغمك على ما اعتقد، هكذا يرى التسامح.
ربما حاول الفيلسوف ورجل اللاهوت الإنجليزي “جون لوك” الإجابة عن هذه الأسئلة، فكتب بحثه سنة (1667 م) حول التسامح. essay on toleration
إن التسامح هو خلق جسور للتواصل بين المُختلفين، التسامح هو ذكاء روحي نحتاج إليه اليوم أكثر مما مضى، فغايته إعطاء قيمة للآخر وخلقها لدى الأطراف المختلفة، فالآخر هو أنا وأنت، الغير الذي هو! نحن في حاجة للتسامح لحل الصراعات الطائفية و الاثنية والقومية.
لقد كان sammwel huntington يقول بشكل قطعي “أن الدول الإسلامية لديها نزعة للالتجاء للعنف في الأزمات الدولية” 1، أي أن الدول الإسلامية لا تعرف معنى التسامح الذي عرفته أوربا مع الفلاسفة التنويريين، إننا نحتاج للتسامح فهو مفتاح مهم من مفاتيح التصالح والمصالحة مع الغير، الذكاء الروحي مفهوم أعتبره متجاوزا لمفهوم “التواصل الثقافي” الذي ينظر إليه المثقفون، الذكاء الروحي هو قدرة الفرد على تجاوز إدراكه للاختلافات الثقافية، إلى مستوى فهم أسباب هذه الاختلافات وإنجاز سلوكيات مبنية على فهم الأسباب، هذا هو المدخل للتسامح الذي نريد – تسامح لا يقف عند المختلف فيه، تسامح يبحث عن الذوبان في كنه الإنسانية.
تاريخياً أدى عدم التسامح في أوربا إلى مذبحة بين الكاثوليك والبروتستانت (1618 – 1648) بسبب الخلافات اللاهوتية، رغم أنهما تعتمدان الكتاب المقدس مرجعاً لهما معاً، وهنا لا بد لنا من التنويه بأن الأنثربولوجي الفرنسي “جيرار لينيه”، والذي درس مفهوم العنف بالكتاب المقدس، كان مفكراً لا دينيا معظم حياته، لكنه اهتدى إلى المسيحية بعد الانتهاء من دراساته حول العنف وعلاقته بالمقدس، وإن بقي مسيحيا مشاغبا يجادل في بعض التعاليم التي تتمسك بها الكنيسة، كما أنه يرى – ومعه حق- أن المسيحية التاريخية قد تصادمت مع الإنجيل فيما يبدو، وأنها حاولت إحياء العنف الذي فضحه المسيح، وفي هذا السياق أكد اللاهوتي الألماني السويسري “هانس كونغ” في مطلع كتابه “مشروع من أجل أخلاقيات عالمية”، على أهمية التسامح، حيث يقول: “ما من سلام عالمي بدون سلام ديني، وما من سلام ديني دون حوار بين الأديان” 2، هذا ما قاله هذا المفكر المشاكس والمنشق عن الكنيسة، كما وجدنا مثله في كتابات “فالانتين زوبر”، الأستاذة المحاضرة بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا بباريس، والمؤرخة المتخصصة بتاريخ التسامح الديني في أوربا (من القرن السادس عشر إلى القرن الحادي والعشرين)، والتي تركز في اهتماماتها البحثية على تاريخ العلمانية والتسامح بفرنسا، والجذور الثقافية لحقوق الإنسان، ومن منشوراتها التي قمنا بتحليلها ودراستها “إجلال حقوق الإنسان” (2014)، وكدا “صراعات التسامح: ميشيل سيرفي بين الذاكرة والتاريخ – القرنين 19 و20” (2004).
لقد كتب “جون لوك” رسالته حول التسامح (سنة 1667) وما زلنا لم نستوعبه في ظل الصراعات الطائفية والسياسية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذ ناقش في بحثه جدلية الديني والدنيوي، السياسة والمقدس من وجهة نظره كلاهوتي أولاً، وكسياسي ثانياً، فدافع في رسالته عن القيمة الإنسانية للفرد قبل الجماعة، وأسس من خلال بحثه لأخلاقيات جديدة كالاختلاف والإيمان بدون قيود، وتعد رسالته منطلقا لتأسيس مفهوم العلمانية بفرنسا سنة (1905 م)، وأيضاً وثيقة علمية وإنسانية للتاريخ الألماني والإنجليزي حسب ما قاله h.r.fox – bourne في كتابه “حياة جون لوك” الذي صدر في مجلدين، سنة ( 1876م) 3
لقد بدأ “جون لوك” يميل إلى التسامح بعد تركه لإنجلترا (نوفمبر 1645) صحبة السير “والتر فان” الذي أرسله “تشارلز الثاني” في مهمة دبلوماسية إلى ناخب “براندنبرغ” بألمانيا، فأقام بضعة أشهر بمدينة “كلف”، وكان قد عبر عن التسامح الذي يسود فيها، فقيل إن هذا التسامح أثر في نفسيته، فأرسل “رسالة التسامح” إلى صديقه “إدوارد بويل” يخبره فيها بأنه شاهد الكلفانيين و اللوتريين، بل والكاثوليك يمارسون طقوسهم بحرية تامة، ويحتملون بعضهم بعضاً كما يقول الإنجيل، إذ قال: “إن كل واحد منهم يسمح للآخر في هدوء بأن يختار طريقه إلى السماء، وإنما لم ألاحظ أي نزاع أو عداوة بينهم في أمور الدين – إنهم يرون آراء مختلفة دون أن يعتلج في نفوسهم أي بغض سري أو حقد”، ففي هذه الرسالة، يحدً من سلطة الحاكم المدني، فيقول :”لا ينبغي للحاكم المدني أن يتدخل إلا فيما يؤمًن السلام المدني ويحافظ على ممتلكات رعيته”، ثم يخطو خطوة أبعد فيقول: “إنه ليس للحاكم المدني أي سلطة على الرعية فيما يتصل بالدين، لأن أمور الدين تخص الفرد والله فقط، إنها أمور كلها بين الله وبيني أنا”، ثم يستطرد على نحو صريح : “ليس من المعقول أن يكل الناس إلى الحاكم المدني سلطة أن يختار لهم الطريق إلى النجاة، إنها مسألة خطيرة لا يمكن التسليم فيها”، وأخيراً، يؤكد على خطر الفرق الدينية في مسألة السلام والأمن العام، أنه لا حاجة إلى التخوف من ذلك، لأن الناس المتحدين في دين لا يهمهم معارضة الحكومة، وليسوا أخطر من النقابات الاجتماعية، بل “أؤكد أنهم أقل خطراً لأنهم أشد تفرقا”.
يصف “جون لوك” المخالفين بأنهم أفراد يتبعون قناعات ضمائرهم بإخلاص، ولا مجال لاستخدام القوة القاهرة ليغيروا آراءهم، وإنما علينا أن نقنعهم بأن يصيروا “أصدقاء للدولة وإن لم يكونوا أبناء للكنيسة” 4، .يعتبر “جون لوك” من بين رموز الفلسفة السياسية في إنجلترا خلال القرن السابع عشر، فلم يكن اشتغاله بتحليل الظاهرة الدينية والوقوف على مضامينها وأبعادها منفصلاً عن الأحداث الاجتماعية والسياسية الكبرى التي عاصرها، ففي سنة (1660) طرح على بساط السياسيين المشكل الحقوقي المتصل بتحديد القوانين الدستورية التي على أساسها تمارس السلطة السياسية وظيفتها، واكتسب هذا الأمر مشروعية خاصة في ظل وضع مأزوم، انتشرت فيه الجماعات الدينية المسيحية التي أشهرت النصوص الدينية في وجه القوانين والتشريعات المدنية / الدنيوية، ما طرح بحدة إشكالية علاقة الدين بالسياسة، لقد كان “جون لوك” منخرطا في الأحداث السياسية، بل إنه تقلد مناصب سياسية مهمة وانخرط في حزب ليبرالي سري، واتخذ لنفسه اسما مستعارا، ولجأ إلى هولندا هربا من الملاحقة والاضطهاد، وبذلك فإنه عايش تموجات واقعه السياسي بأغلب تفاصيله، ومن ثمة فإن إدراكه لضرورة دراسة المسألة الدينية من زاوية “حرية الاعتقاد” وعلاقتها بالسياسة من زاوية فلسفية كان مثمراً.
تندرج نظرية “جون لوك” السياسية ضمن فلسفة العقد الاجتماعي، فهو يعتبر أن الناس عاشوا في البدء الحالة الطبيعية حيث لم تكن هناك قوانين ولا دساتير، مما يتطلب المضي في اتجاه تأسيس الحالة المدنية التي يجب أن تنتظم وفق سلطة القوانين وحدها، وهو بذلك ضمن كوكبة من الفلاسفة الذين اصطلح على تسميتهم فلاسفة العقد الاجتماعي، أمثال “جان جاك روسو” (1712 – 1778) و “طوماس هوبز” (1588 – 1679) و “باروخ سبينوزا” (1632 – 1677)، ففي مناداته بالأخذ بالعقد الاجتماعي قد اتخذ موقفا إيجابياً من “حرية المعتقد”، فهو يمنح الفرد الحق في اختيار قناعاته دون تدخل للسلطة السياسية التي يمثلها الملك، ويجعل من المجتمع المدني سلطة موازية للمجتمع السياسي كما بسويسراً وهولندا وباقي الدول المتأصلة في الفعل الديمقراطي، فهو يؤلف بين سلطة القوانين وسلطة الأخلاق، فالفرد لا يخضع للعقد بفعل القوانين وحدها، وإنما بفعل القناعة الأخلاقية أيضاً، كما أنه لا يعتبر الفصل بين السلطات كفيلاً وحده بضمان سيرورة “حرية المعتقد”، وإنما يجب أن يضاف إلى ذلك العمل بمبدأ التسامح، لأجل ذلك يرى في الفصل بين الدين والسياسة أمرا لا غنى عنه، وهذا ما تكشفه رسائله، فقد أرجع الكثير من المشكلات السياسية للتعصب الناشئ عن الخلط الفاضح بين الدين والسياسة ما أدى إلى غياب التسامح، فهو مع الرأي القائل أن يختار كل واحد طريقه إلى السماء بحرية، فالنزاع المذهبي يبذر الفرقة والانقسام داخل المجتمع ويحكم عليه بالزوال.
لقد هاجر “جون لوك” لهولندا التي أوى لها جميع المفكرين هربا من الاضطهاد الكاثوليكي، ف”ديكارت” عندما سمع بحكم الكنيسة الكاثوليكية على “غاليليو غاليلي” هرب إلى هولاند خوفا من محاكمته، إن التسامح يقوم على عقد اجتماعي بين الفرد والجماعة، وبين الجماعات والدولة، فتهديد السلم الاجتماعي واستدعاء الذاكرة بالخطابات الطائفية والتحريضية يسقط حق الجماعة وتجردها من الوجود، وبذلك تواجه قوة الدولة الباطشة.
خلاصة: إن المسامحة لا تكون من الضعيف للقوي وإلا سميت استسلاما وقلة حيلة، والعفو لا يكون إلا عند المقدرة، فالتسامح لا يمكن أن يكون مع الأفكار المتطرفة والاستئصالية، فلا يعقل ان نتسامح مع الفكر الوهابي التكفيري ورفيق دربه الفكر الشيعي الجعفري وأممية ولاية الفقيه الإيرانية، ومع الفكر القطبي الإخواني، ومع التيار العروبي القومي الشوفيني.
مراجع وهوامش:
1 – “صدام الحضارات: إعادة بناء النظام العالمي” تعريب مالك أبو هشيرة ومحمد محمود خلف / دار الجماهيرية للنشر والتوزيع (الطبعة الأولى 1999 ص 442).
2 – hans kung “projet d ethique plaintaire : la paix mandiale par les paix entre les religions” (paris : seuil.1991 p 9).
دعا هذا اللاهوتي إلى أخلاق متسامحة كونية وشاملة، كبديل لمركزية طروحات الكنيسة.
3 -توجد أربع روايات لهذا الكتاب بينها فروق ضئيلة: أولها في ديوان السجلات العامة بلندن، والثانية بمكتبة “بودلي / أكسفورد”، والثالثة في مجموعة يملكها houghton بنيويورك، والرابعة ب”سان مارينو” بمقاطعة كاليفورنيا، وقد نشر إحداها fox – bourne في كتابه “حياة جون لوك” سنة (1876).
4 – رسائل جون (المجلد الأول – ص 184- 185 و 227)، “رسالة في التسامح” ترجمها عن اللاتينية عبد الرحمان بدوي – الطبعة الأولى، بيروت 1988 / دار الغرب الإسلامي (ص 42 – 44 و 70)، كان تاريخ الرسالة الأولى لجون لوك، والتي أرسلها لإدوارد برايل هو (22/ 12 / 1665).
محمد سعيد: باحث في العلوم الإنسانية، وعضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية (مدى)
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.