Skip to content
Skip to content

التّعاطي الإعلاميّ غير المفهوم مع كارثة الكحول المسموم

تاريخ النشر: يوليو 4, 2025 11:02 ص
الكاتب د. مهند العزة

الكاتب د. مهند العزة

د. مهند العزة– عن عمّان نت

في عام 2015، استضاف برنامج (يسعد صباحك) الّذي يبثُّ على التّلفزيون الأردنيّ د. حيدر الزبن المدير السّابق للمواصفات والمقاييس الّذي يُعتبر وبحقِّ من الشخصيّات المُتميّزة والمّبدعة الّتي شغلت هذا المنصب. في هذا اللّقاء، قال الزبن بعقليّة الاقتصاديّ المُتبصِّر والواقعيّ غير المُتملِّق؛ أنَّه سعى لجعل منتوج العنب الأردنيّ -بما لأرض الأردن من مكانةٍ ذات قداسة لدى شعوب دول أروبا والغرب عمومًا- من السِّلع الرئيسيّة المطلوبة، خصوصًا لمصانع النبيذ في تلك الدول، مُقدِّمًا أرقامًا تقديريّةً مُبهرةً حول حجم العوائد المُتوقعة من تصدير محصول العنب.

 قبل أنْ ينتهي اللّقاء، باشرت خفافيش منصّات التّواصل الاجتماعي الطّعن بالرَّجل، لتتلقَّف المواقع الإخباريّة الصّفراء الباهتة هجمة تلك الخفافيش بحرارة، فبدأت تضع عناوين تتصدَّرها حتمًا كلمة: (شاهد فضيحة.. الزبن يدعو للانخراط في صناعة النبيذ.. الزبن يُشجع مزارعي الأردن على مُشاركة إنتاجهم لتصنيع الخمر..). وبطبيعة الحال، كانت المواقع الإخباريّة المُنتميّة لتيّارات الإسلام السياسيّ في طليعة من تطوّع لإعادة تدوير نفايات التنمّر الّتي عجَّتْ بها وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ثمَّ قولبتها في صور إخباريّة صارخة بعناوين  «بيّاعة» تزيد ظمأ كلّ مُتعطّش لاغتيال أيّ مُختلف أو مُخالف في رأي أو وجهة نظر.

كان الكاتب الأستاذ فهد الخيطان، من أوائل من تصدّوا لمناقشة جحافل الّذين هاجموا الزبن في مقالٍ نشره في جريدة الغد بعنوان: نبيذ أردني، فنّد فيها الهجمة المُفتعلة على الرَّجل، وانتقد من هاجموه خصوصًا هواة ركوب الأمواج مِمَّن يُعاقر بعضهم النبيذ، واضعًا كلام الزبن في سياقه الصحيح.  

 هذا المشهد الّذي تضرب فيه تسونامي الديماغوجيّة الحاضرة طوال السّنة؛ يتكرَّر مع كلِّ حدثٍ يجد فيه مغتالو السّمعة سفّاحو القيم؛ فرصةً لجعله مادةً يقتاتون عليها، فينهشون في سمعة وروح ومشاعر الآخر،  فقط لكونه لا يشبههم أو يختلف عنهم قليلًا.

مع الإعلان عن ضبط مصنع مشروبات كحوليّة في محافظة الزرقاء يستخدم مادّةً سامّةً تسبَّبَتْ بإزهاق أرواح 9 أفراد حتّى الآن وخلَّفَتْ 27 نزيلًا في غرف العناية المُركَّزة يُصارعون الموت، بدأ مشعوذو وسائل التّواصل الاجتماعيّ من أكلة لحوم البشر أتباع فقه النيكروفيليا؛ ينهشون في أرواح ضحايا هذا الغشّ التجاريّ المُروِّع ومشاعر أهلهم وأحبّائهم. إذ سارعت غرائز وعّاظ التألي على الله لكشف أسوأ ما يمكن أنْ تنطوي عليه سليقة البشر، ألا وهو التشفّي وإظهار الفرحة بموت إنسان آخر، بل وكما هي العادة، أبى النيكروفيليون هؤلاء إلّا أنْ ينهشوا خارج الصندوق، فحذَّروا من الترحُّم على من قضى من ضحايا هذا المصنع أو تمنى الشّفاء لِمَن يرقدون منهم بين الموت والحياة، كيف لا، وهم أنفسهم المُحذِّرون المُتوعِّدون «نيابةً عن الله» كلّ من يُهنِّئ جارًا أو صديقًا أو زوجةً مسيحيّةً بعيد الميلاد المجيد أو رأس السّنة أو غيرها، فما بالك بطلب الرّحمة لمن ليس على شاكلتهم أو شكلهم مِمَّن يرحل عن هذا العالم.

 إذا كان فحيح وعاظ التألي على الله ليس مفاجئًا، فإنَّ الموقف الإعلاميّ الصحّيّ هو الّذي جاء غريبًا وغير مفهوم.. حيث كان غايةً في الغرابة ألّا يتمّ نشر اسم المصنع والمنتجات السامّة لكي يتجنّبها من يشربون الكحول.

الحقيقة أنَّ محاولة فهم حجب الجهات المعنيّة اسم المصنع والمنتجات تقود؛ إلى احتمالين: الأوّل، أنَّ هذه الجهات تخشى من أنْ يكون في الكشف عن اسم المُنتجات والمصنع نوع من الدعاية، وهذا غير منطقيّ بطبيعة الحال، ذلك أنَّ المصنع في وضعيّة اتّهام ومنتجاته مسمومة يتمّ سحبها من الأسواق وإتلافها. أمّا الاحتمال الثّاني، وهو المؤسف إنْ كان صحيحًا، فيمكن أنْ يكون الخشية من نعيق الغوغائيّة الاستئصاليّة، فتمَّ الاكتفاء بالتّحذير من شُرب الكحول دون وضع قائمة بأسماء المُنتجات المسمومة أو المصنع المنتج، ليُترك الأمر للتّخمين والشّائعات، دون اكتراث لاحتمال أنْ يؤدّي هذا المسلك غير الشفّاف إعلاميًّا والمُتماهي مع شلّة «الشيطان يعظ»إلى وقوع ضحايا جُدد، ودون التفات إلى أثر ذلك على هذا القطاع الّذي يدر الملايين من العوائد الضريبيّة ويُعتبر من مُتطلَّبات قطاع السياحة المُتهالك في هذه الآونة.

 إذا كان هذا الموقف غير مفاجئ من عشّاق التشفّي بالموتى والمرضى الّذين يُشكِّلون ولا ريب أغلبيّةً ساحقةً في مُجتمعاتٍ تتوارث العُنف والتوحُّش من جيل إلى آخر وترى في وفاة من قضوا بسبب الغشّ التجاريّ ورقود آخرين بين الموت والحياة عقابًا إلهيًّا ونتيجةً دنيويّةً «تشفي صدور قوم مؤمنين»، تاركين صحب لهم يتبنّون ذات منطقهم وقد حارت عقولهم وهم يتساءلون؛ عن عدم نزول عقاب مُماثل أو أقل بمن يشربون دماءً أهل غزّة وسوريا ولبنان وإيران وغيرها، فإنَّه من غير المفهوم طريقة التّعاطي مع هذا الحدث إعلاميًّا، إذ ليس من بون يلاحظ من حيث المرمى والمغزى في طريقة تعاطي الإعلام الصحّيّ مع هذا الحدث الجلل، فكأنّي بمن اختار هذا المسلك يُردِّدُ مع جوقة المتشفّين ويقول: «لا تشربوا الكحول.. خصوصاً هذه الأيام..  ومن أبى إلّا أنْ يشرب وشرب من الكحول المسمومة، فهو ونصيبه وذنبه على جنبه والله لا يرده».

إذا كان من المستحيل إحداث تغيير في نفوس تعلَّمت وتعلَّم غيرها أنَّ قتل الآخر وموته ومرضه قد يكون في مواطن وسياقات مُعيّنة شفاء وراحة للنّفس، فلا أقل من أنْ تربأ الجهات المنوط بها التوعية والتثقيف عن مهادنة هكذا تيّار، فضلًا عن التّماهي معه.

*الكاتب عضو مجلس أعيان أردنيّ سابق وخبير في مجال حقوق الإنسان.

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment