
السابق Palestinian Police Arrest Three in Jenin Church Attack; Community Relights Christmas Tree in Unity

لا خلاف ان مشرقنا العربي يواجه انحسارا كبيرا للوجود العربي المسيحي والمشرقي المسيحي في موطنه التاريخي. شخصيا أرى ان هذا الحال كارثي للمسيحية في مهدها وأيضا لا يفيد الحضارة العربية الإسلامية التي تفقد تنوعا دينيا كان جزءا اصيلا من هويتها على مدى تاريخها.
اذا ما بدانا الحديث بان القوميات والهويات هي أساسا خيارات وجدانية لأفرادها استنادا لسرديات تعتمد على التاريخ كما نتصوره او على مقتطفات من هذا التاريخ فيمكن رؤية ان الوجود المسيحي المشرقي لن يعود لحيويته وازدهاره بدون ان نشعر نحن اهل هذا المشرق ان الوجود المسيحي المشرقي جزء أساسي من الحضارة العربية الاسلامية استنادا لسردية تاريخية يتفق عليها معظم أصحاب الحضارة العربية الإسلامية من مسلمين ومسيحيين.
وههنا نقطة البداية: ان نشعر جميعا اننا _نحن جميعا_ أصحاب الحضارة العربية الإسلامية.
وربما يفيدنا هنا ان نلتقط من التاريخ بعض النقاط والدلالات ونتمعن فيها لنعرف ان الحضارة العربية الإسلامية هي حقا حضارة مشتركة للجميع وهي نتاج تمازج وتبادل حتمته ظروف الجغرافيا والتاريخ. كقارئ هاو للتاريخ اود ان اذكر بعضا من هذه النقاط الإيجابية المفصلية.
لا بد ان تكون البداية العهدة العمرية وما نعلمه عن تسليم القدس سلما من قبل البطريريك صفرونيوص للخليفة عمر بن الخطاب. ورفض الخليفة عمر بن الخطاب دعوة الصلاة في كنيسة القيامة خوفا من ان يطلب المسلمون بعده ان تتحول الى مسجد وصلاته بدلا من ذلك في موقع المسجد العمري في القدس.
وهنا نذكر ان الإمبراطورية البيزنطية _كدولة قديمة وما قبل العصور الوسطى_ لم تكن فيها حرية دينية. مثلا الكنيستان المارونية والقبطية _وهما كنيستان مشرقيتان اصيلتان في الشام ومصر_ كانتا مضطهدتين من قبل الكنيسة الرسمية للدولة البيزنطية بسبب الخلاف اللاهوتي بعد مجمع خلقيدونية. وان قدوم الحكم العربي الإسلامي مع الخلافة الراشدة وبعدها الاموية لربما كان مفصليا في بقاء الكنيستين مستقلتين وبدون تغيير عقيدتهما بحسب قرارات مجمع خلقيدونية.
اما دمشق فقد اتاها جيشان مسلمان والتسليم كان صلحا لجيش وحربا لجيش اخر. الصلح كان بين والي دمشق منصور بن سرجون مع خالد بن الوليد باتفاقية تعطي الأمان لسكان المدينة وممتلكاتها. وهذا كان السبب في ان نصف ما اصبح المسجد الاموي بقي كاتدرائية مسيحية فيها مقام للقديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى في الاسلام).
وتجاور الجامع والكاتدرائية حتى عصر الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبد الملك الذي امر ببناء المسجد في موقع الكاتدرائية المسيحية في عام 706 م. وبعد ما امر الوليد بهدم معظم الكاتدرائية، وغُيِّر تخطيط المبنى تماما، ليستخدم بصفته مسجداً كبيراً لصلاة الجماعة لمواطني دمشق ومعلماً دينياً لمدينة دمشق. احتج المسيحيون في دمشق على هذه الخطوة، وردا على هذا الاحتجاج أمر الوليد باسترجاع جميع الكنائس المصادرة الأخرى في المدينة إلى المسيحيين في الشام كتعويض. أي ان بناء المسجد الاموي في دمشق تزامن مع زيادة عدد كنائسها.
وهنا نعرج على سياق تاريخي مهم قد يفسر أسباب تسامح معظم الخلفاء الامويين الكبير مع رعايا الدولة الاموية المسيحيين في الشام. وهو ان الامويين كانوا منشغلين بحروب أهلية بعد الفتنة الكبرى بين الامام علي ومعاوية واستمرت الحرب حتى عصر عبد الملك بن مروان. وعليه كان منظور الخلفاء الامويين ان سكان الشام ومصر والعراق المسيحيين المنشغلين بحرفهم وزراعتهم واعمالهم كانوا رعايا للدولة ودافعين لضرائبها ممولين لخزانتها وليسوا طرفا في الصراع على الخلافة مع بعض الصحابة في بداية العصر الاموي وضد الثورة العباسية في نهايات الحكم الاموي. وهذه النظرة بحياد المسيحيين مع كونهم وعاء ضريبي مهم للدولة استمرت في الدولتين العباسية والفاطمية (واللتين تزامنتا طوال وجود الدولة الفاطمية وتنافستا على النفوذ في الشرق وكانتا على مذهبين مختلفين: السني في الدولة العباسية والشيعي الإسماعيلي في الدولة الفاطمية) حيث ازدهر الوجود المسيحي في مدن الحضارة العربية الإسلامية في معظم عصورها.
وطالما نتحدث عن المال والخراج نذكر هنا ان القديس يوحنا الدمشقي كان وزيرا للمالية في الدولة الاموية وهو حفيد منصور بن سرجون والي دمشق الذي ابرم اتفاقية الصلح مع خالد بن الوليد. اباه كان سرجون بن منصور وهو أيضا عمل مستشارا للخليفة معاوية بن ابي سفيان وبعده يزيد. فيما خدم القديس يوحنا الدمشقي (منصور بن سرجون بن منصور) حتى خلافة يزيد الثاني.
وقد تكون مفاجأة للكثيرين ان الخلفاء الامويين كانوا يستضيفون يوحنا الدمشقي وغيره من المسيحيين لمناظرات ونقاشات دينية ولاهوتية مع العلماء المسلمين. وهذه النقاشات التي كانت باللغة العربية كانت عاملا في تعريب الصلوات في الكنائس المشرقية في فترات لاحقة. ففي العصر الحالي تقيم كنيسة الروم الأرثوذكس المقدسية قداديسها وصلواتها بالعربية واليونانية بينما تقيم الكنيسة المارونية الصلوات بالعربية والآرامية والكنيسة القبطية بالعربية والقبطية. أي ان كل كنيسة مشرقية موجودة في البلاد قبل الفتح الإسلامي استمرت في اللغة القديمة وأضافت اليها اللغة العربية بعدما أصبحت اللغة ولهجاتها المختلفة هي اللغة السائدة بعد تعريب الدواوين.
اتقن المسيحيون المتعلمون اللغات اليونانية والارامية والقبطية والعربية وهذا كان عاملا مهما لوجودهم في الإدارة لان دواوين الدولة العربية الإسلامية لم تعرب الا في عهد عبد الملك بن مروان وقبلها كانت باليونانية والارامية والقبطية. اي ان الدواوين بقيت بغير اللغة العربية في الشام ومصر من وقت الخلافة الراشدة الى عصر عبد الملك بن مروان. وهذا التمازج اللغوي ظهر في اللهجات المحكية في بلاد الشام ومصر حيث تستعير اللهجات من العربية والارامية والقبطية ومثال ذلك أسماء الأشهر الشمسية في بلاد الشام على سبيل المثال لا الحصر.
كذلك يقدر البعض ان الخلافة العباسية في اوج توسعها كان فيها نصف مسيحيي العالم وكان المسيحيون يشكلون قرابة نصف السكان في بلاد الشام ومصر. وهذه نقطة مهمة يغفلها الكثيرون وهو ان قمة توسع الحضارة العربية الإسلامية كانت قبل دخول شعوب شمال أوروبا وروسيا في الدين المسيحي وبالتالي كانت أراضي الإمبراطورية العربية الإسلامية موطنا لمعظم مسلمي ومسيحي العالم.
صحيح ان بعض العصور أتت بنكسات ومن ضمنها هدم الحاكم بأمر الله الفاطمي لكنيسة القيامة وكنائس القاهرة ومنع الحج المسيحي قبل الحروب الصليبية بحوالي 90 سنة. ويقال انه فعل ذلك للرد على إشاعة انه امه كانت مسيحية.
لكننا نستطيع ان نقفز الى صلاح الدين الايوبي وتحضر هنا نقطتان أساسيتان من عصره. فالملك الناصر صلاح الدين هو من أعاد وجود الكنيسة الارثوذكسية في القدس بعد انقطاع دام حوالي 100 سنة طوال الحكم الأوروبي في حقبة الحروب الصليبية. وصلاح الدين أيضا كان من اتفق مع كل الطوائف المسيحية في القدس على حل لاستخدام مشترك لكنيسة القيامة يشمل ان تكون مفاتيح القيامة مع عائلتين مسلمتين مقدسيتين هما عائلة جودة ونسبية وهو مستمر لعصرنا الحالي.
وحتى في الخلافات غير العربية مثل الخلافة العثمانية فقد استمر التنوع الديني بشكل كبير. حري بنا ان ننوه ان هذا التنوع الديني للدولة العثمانية كان واضحا جليا في القاب السلاطين العثمانيين: فالسلاطين العثمانيين حملوا لقب قيصر الروم بالإضافة الى لقب السلطان منذ 1453 بعد فتح القسطنطينية ولم يحملوا لقب الخليفة الا بعد 1516 عندما هزموا المماليك وتنازل اخر خليفة عباسي عن الخلافة للعثمانيين. والدولة العثمانية كانت متنوعة طائفيا وهو ما أسس لنظام الملل العثماني الذي كان متقدما نسبيا بمقاييس العصور الوسطى على الأقل. وكانت الملل الأساسية الكبيرة هي ملة الروم وملة الأرمن وملة اليهود.
وننتهي حيث بدانا. نحن جميعا _مسلمون ومسيحيون_ حقا أصحاب الحضارة العربية الإسلامية التي قدمت للإنسانية الكثير. وفي يومنا هذا في القرن الواحد والعشرين نحن جميعا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات في دولنا الوطنية المختلفة. وحقائق التاريخ والجغرافيا تؤكد ان هذا التزامن في الوطن ليس طارئا ولا غريبا ولا عابرا بمشيئة الله. ولدينا من التاريخ ما يكفينا للافتخار بحضارة مشتركة عريقة فخورة تشكل أساس هويتنا اللغوية والثقافية المشتركة.
هل نعرف جميعنا هذه النماذج المشرقة من تاريخنا؟ هل يدرس تلاميذنا في المدارس هذا التاريخ الذي يفسر تنوع بلادنا الديني والطائفي بفسيفسائه الجميلة؟ ام اننا استسلمنا لمحاولات فرض نماذج اقصائية وأفكار استشراقية لا تستوي مع تاريخ البلاد.
عالمنا الحالي هو عالم التنوع الديني واللغوي والاثني في معظم دول العالم. احد تجلياته وجود إسلامي كبير بمئات الملايين في دول ذات اغلبية سكانية غير مسلمة من الهند الى افريقيا وأوروبا. وهنا لربما هنالك مقاربة مع العصر الذهبي للحضارة العربية الاسلامية: كما كان الحكم العربي الإسلامي أساسا لبقاء التنوع الطائفي المسيحي في المشرق في القرن السابع الميلادي فان تنوع الوجود الاسلامي عالميا تجده بارزا بشكل اكبر في دول الغرب العلمانية اكثر من بلدانهم الاصلية.
امام حقيقة ان التنوع البشري اللغوي والطائفي هو الأساس. وهو ما كان سائدا في تاريخ حضارتنا العربي المشتركة اختم بجملة بسيطة:
خلينا كلنا نروق ونهدأ ونستمر!

*كاتب أردني


تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!