Skip to content

هل كانت فلسطين السبب بالإطاحة برئيس الأساقفة؟

رابط المقال: https://milhilard.org/6nlp
تاريخ النشر: نوفمبر 23, 2024 12:35 م
جواد
رابط المقال: https://milhilard.org/6nlp

هل كانت فلسطين السبب بالإطاحة برئيس الأساقفة - جواد بولس

بقلم المحامي جواد بولس

لم أكن أعلم، عندما كتبت مقالتي في الخامس من أيلول/سبتمبر الماضي “هل سيصبح رئيس أساقفة كنتربري حليف الحقِّ الفلسطينيّ؟” أنَّ نهاية خدمته ستأتي بهذه السّرعة؛ وأنَّه سيضطر إلى الاستقالة من منصبه، كما فعل قبل عشرة أيّام. لقد دعا جاستن ويلبي في بيان أصدره مطلع شهر أغسطس الماضي إلى ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيّة مُضيفًا أنَّه “في الوقت الّذي يشهد فيه العالم مزيداً من الانتهاكات للقانون الدوليّ، يجب على الحكومات في جميع أنحاء العالم أنْ تؤكِّد التزامها القويّ بجميع القرارات الصّادرة عن محكمة العدل الدوليّة، لا سيّما أنَّ الالتزام بهذا القانون أصبح موضع تساؤل بالنّسبة لبعض الدّول”. رأى المراقبون أنَّ تصريحات الزّعيم الروحيّ للكنيسة الأنجليكانيّة الّتي يتّبعها زهاء 85 مليون شخص في العالم، تُشكِّل مُنعطفاً لافتاً في مواقف هذه الكنيسة إزاء الصّراع الإسرائيليّ – الفلسطينيّ، الّتي طالما اتّخذ رؤساؤها الروحيّون مواقف موالية للسّياسة الإسرائيليّة ومتناسقة مع سياسات الحكومات البريطانيّة المنحازة لإسرائيل دوماً. لقد أخاف بيان رئيس الأساقفة ويلبي مهندسيّ السّياسة الإسرائيليّة الاحتلاليّة وحلفاء إسرائيل في العالم، واعتبروه مؤشِّراً خطيراً، خاصّةً لتزامن نشر إعلانه مع نشر تصريحات أطلقها قداسة البابا فرنسيس من مقرِّه في الفاتيكان ودعا فيها إلى وقف الحرب على غزّة وأنْ لا تتوقف المفاوضات لوقف النّار وأنْ يعمّ السّلام الأرض المُقدّسة ولتكن القدس مدينةً يعيش فيها المسيحيّون واليهود والمسلمون باحترام.

لم يتأخَّر ردّ المدافعين عن إسرائيل على تصريحات ويلبي. فبعد انتشار أصداء بيانه، تعرَّض لحملة انتقاداتٍ واسعة ومسعورة، شاركت فيها عدّة منظّمات تطلق على نفسها في بريطانيا اسم “المسيحيّون الصهيونيّون” ومعهم شخصيّات يهوديّة عديدة، برز من بينها رئيس حاخامات جنوب أفريقيا الّذي انتقد موقف ويلبي وموقف قداسة البابا فرنسيس متهماً كليهما “بالفشل بالدّفاع عن القيم الغربيّة والتوراتيّة والتّنازل عن إسرائيل وأفريقيا وأوروبا للجهاديّين”. 

لم يرتدِعْ رئيس الأساقفة ولم يتراجعْ أمام تلك الانتقادات؛ بل أعلن أنَّه ينوي زيارة الأراضي الفلسطينيّة ضمن متابعة مشروع يحمل اسم “الُمصالحة” تقوم على رعايته الكنيسة الأنجليكانيّة في عدّة مناطق في العالم وبضمنها منطقتنا. حُدِّدَ موعد الزّيارة للأسبوع الثّاني من الشهر الجّاري؛ وأعدّ طاقم الكنيسة ومساعدوه برنامجها وحرصوا أنْ يكون كلّه بنكهة فلسطينيّةٍ خالصة. تضمَّن البرنامج دعوة بضعة أشخاص للقائه مساء الأحد 17 تشرين الثاني على وجبة عشاء يليها نقاش مفتوح معه حول “طاولة مستديرة” في مقر الكنيسة في القدس الشرقيّة؛ وكنت أحّد المدعوين. انتظرت اللّقاء بحماس وبفرح لقناعتي بأهمّيّته وبضرورة مساندة مواقف نيافته، ودعمه في المواجهة الّتي يخوضها مع بعض العناصر من داخل كنيسته ورعاتهم القائمين على “شبكات التّخطيط للسّيطرة على العالم” غير الرّاضين عن مواقفه المُعلنة لدعم فلسطين. كادت فرحتنا في صباح يوم الثلاثاء 12 تشرين الثاني تتبخَّر عندما قرأنا في  الصّحافة ومواقع الأخبار خبراً يُفيد بأنَّ جاستين ويلبي قد أعلن استقالته.

صدمني الخبر؛ وصُعِقْتُ عندما قرأتُ خلفيّاتِه وتداعيات القصّة الّتي سبقته وتفاصيلها الغريبة.

ففي صباح يوم الخميس الموافق 7 تشرين الثاني، نُشِرَ في الصّحافة البريطانيّة تقرير أعدّتْهُ لجنةٌ خاصّةٌ قامَتْ بناءً “على طلب الكنيسة ” بفحص إذا قام رؤساء الكنيسة وبضمنهم ويلبي بالتستّر على مخالفات جنائيّة اتّهم بتنفيذها مواطن يدعى جون سميث كان يعمل متطوِّعاً في ثمانينيّات القرن الماضي كمرشد في مخيّمات للشّباب تُقيمُها الكنيسة في بريطانيا وجنوب أفريقيا وزيمبابوي. اشتُبِه بهذا الشخص بأنَّه كان يتحرَّش جنسيّاً ويعتدي على الأطفال المشاركين في تلك المخيّمات .

لقد استلم جاستين ويلبي منصبه كرئيس أساقفة في سنة 2013، ومارس عمله من دون أنْ “تتحرَّش” بسمعته أو تُشكِّك بشرعيّته أيّة جهة كنسيّة أو غيرها. في سنة  2017 قامَتْ إحدى شبكات التّلفزيون البريطانيّة بنشر تقرير موسّع تناولَتْ فيه التُّهم الموجّهة لجون سميث ودور رجالات الكنيسة ومسؤوليّتهم خلال تلك السّنوات. وقد أُعلن في أعقاب التّقرير بأنَّ الشّرطة البريطانيّة قامَتْ بفتح ملف وباشرت التّحقيق الّذي كان من المفترض أنْ يتمحور حول المتّهم جون سميث، إلّا أنَّ وفاته في سنة 2018 أدَّتْ إلى إغلاق الملف. مضت ستة أعوام ولم تُثَر هذه القضية من قبل أيّة جهة، إلى أنْ حصل ما حصل مؤخّراً. 

لم أقرأ تقرير لجنة التّحقيق؛ لكنّني قرأتُ في الصّحافة أنَّ معدّيه كتبوا أنَّ ويلبي لم يقُمْ سنة 2013 بواجبه بتبليغ الشّرطة عن جون سميث، وهو بذلك تستّر على الفاعل. لم ولن أقرأ التّقرير ولا ردّ ويلبي على هذه “التّهمة”، وقد يكون في الأمر مكان لخطأ. المسألة الأهم برأيي، وفقاً لجميع التّداعيات، هي من كان وراء هذا التّقرير وماذا كانت أهدافهم؛ فالقرائن، كما نقول في لغة القانون، والملابسات والبراهين الظرفيّة والمعطيات ترجَّح كلّها أنَّ هدف المبادرين لإعداد التّقرير ونشره في هذا الوقت بالذّات، لم يكن سعيهم وراء العدل والحقيقة، بل خلْق الظّرف الّذي سيُرغم ويلبي على الاستقالة والتخلُّص من “صحوة ضميره السّياسيّ” وتأثيره الجّائز على مواقف إحدى الكنائس العريقة المعروفة بدعمها الأعمى لإسرائيل مهما فعلَتْ، لأنَّها بالنّسبة لهذه الكنيسة كانت “فوق الخطيئة”.

وهكذا كان؛ فبعد نشر التّقرير مباشرةً بدأَتْ جوقات معارضي ويلبي وفِرق الضّغط السّريع وداعمو إسرائيل بمطالبته بالاستقالة. تعاظمَتْ أصواتهم وأحدثَتْ إضطراباً داخل الكنيسة حتّى فهم أنَّه لن يصمد أمام تلك الهجمة، فقدَّم استقالته “بحزن” كما كتب وأكّد أنَّها “توضِّح لأيّ مدى الكنيسة الأنجليكانيّة بحاجة إلى التّغيير والالتزام بخلق كنيسة آمنة”.

استقالَ لكنَّه لم يرتدِعْ إذ فاجأنا عندما أعلن مكتبه أنَّ زيارته لفلسطين ما زالَتْ قائمة وأنَّ لقاءنا معه قائم.

واجه البابا فرنسيس في شهر أغسطس، كما واجه جاستن ويلبي حملة انتقادات واسعة ومكثّفة، لكنَّه لم يتراجعْ ولم يرتدعْ، بل على العكس رأيناه يستبدل لهجته الحريريّة المألوفة في خطبه “المتوازنة” بلغةٍ أكثر وضوحاً وصرامةً تجاه ما تقوم به إسرائيل ضدَّ الفلسطينيّين؛ إذ أعلن مؤخّراً أنَّ بعض الخبراء الدوليّين يعتقدون “أنَّ ما يحدث في غزّة فيه خصائص الإبادة الجماعيّة” وأنَّه “يجب أن نحقّق بعناية لتقيّيم ما إذا كان هذا يتناسب مع تعريف الإبادة الجماعيّة الّذي صاغه خبراء القانون والمنظّمات الدّوليّة”. لغة حادّة وشُبهات خطيرة لم ترُق لإسرائيل ولا لمعسكرها. لغة يخشون منها لأنَّهم يعرفون أنَّ ما يقوله البابا سيسمعه مليار وربع المليار من البشر؛ يؤمن الكثيرون منهم  أنَّ “الحقّ والقول كما يقول البابا”.

في الخلاصة، زار ويلبي فلسطين والتقى مع العديدين من أبنائها في بيتِ لحمٍ ورام الله والقدس والنّاصرة. رأى وسَمِعَ وتوجَّعَ وصُدِمَ من فظاعة الجريمة.

لن أتحدَّث عن تفاصيل اللّقاء معه، من باب احترام البروتوكول وطبيعة اللّقاء الّذي كان خاصّاً وصريحاً وآسِراً. كان النّقاش بيننا مُثيراً وصادقاً واجهه هو بصراحةٍ وبمسؤوليّةٍ “مسيحيّة صادقة” تثبت أنَّ ليس كلَّ المسيحيّين “صليبيّين”، كما يعتقد الجُهّال ويدّعي بعض المغالطين والمغرضين.

لا أعرف كيف سيتعامل جاستين ويلبي مع ثمار زيارته لفلسطين؛ فهو سيعود لكنيسة غير مستقرّة وفيها تشتدُّ الخلافات والمكائد؛ وسيواجه عاصفةً ضدَّه يدّعي مثيروها أنَّه كان من المفروض أنْ يُلغي زيارته ولا يزور فلسطين. لسنا متأكِّدين ما هي هوامش تحرّكه وتأثيره في المستقبل، لكنّني راجعْتُ تصريحه السّابق الّذي أقام الدّنيا عليه وطالب بنهايته بضرورة إنهاء الاحتلال فهذه ضرورة ” قانونيّة وأخلاقيّة” على حدِّ تعبيره، وخلصتُ إلى نتيجة مفادها أنَّه لن يتراجع عن مواقفه، لأنَّ ما سمعته في لقائي معه كان أوضح وأدقّ وأعدل، وحمل رؤية ثاقبة لطبيعة “إسرائيل الجديدة” الّتي لم تعدْ تلك الإسرائيل الضّحيّة الأثيرة.

إنّنا نشهد، رغم طغيان الظّلم والنّفاق والمصلحة، “بواكير مسيحيّة” واعدة وأصواتاً تحملُ الأمل؛ نتمنّى أن تكبر وتنضج أكثر؛ ففي النّهاية ما كان المسيح إلّا ابن فلسطين، زارع المحبّة والتّسامح والعدل، وفادي أهلها ومخلِّصُ شعبها، كما جاء في الكُتب!.

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

Skip to content