
السابق المُطران إياد طوال يُقدِّمُ درسًا في الإيمان المسيحيّ المبني على المحبّة والإخلاص والنّزاهة – من نشرة ملح الأرض رقم 204

بقلم القسّ الدُّكتور جاك سارة*
لعقودٍ، حذَّر كثيرٌ من المسيحيّين المُضلّلين من “لاهوت الاستبدال” – فكرة أنَّ الكنيسة قد حلَّتْ محلَّ إسرائيل في خطّة الله، مُعتبرين خطأ فكرة استبدال الكنيسة لإسرائيل. ومع ذلك، فإنَّ هؤلاء المسيحيّين أنفسهم يُؤمنون بلاهوت الاستبدال الحقيقيّ، وهو لاهوتٌ خطيرٌ للغاية، ينتشر بين المنابر والمقاعد: استبدال يسوع نفسه بدولة إسرائيل الحديثة.
هذا التَّحريف للإيمان ليسَ مُجرَّد تشويشٍ لاهوتيٍّ، بل هو شبيهٌ لعبادة الأصنام. إنَّه يضع الدّولة السّياسيّة الحديثة في موضع العبادة الإلهيّة، ويُحوّل إنجيل المسيح إلى أداةٍ للقوميّة والاحتلال.
بصفتي مسيحيًّا فلسطينيًّا عاش وخدم في أرض يسوع، أقول هذا بحزنٍ واقتناع: “لاهوت الاستبدال” الحقيقيّ في عصرنا هو الّذي يستبدل المسيح بإسرائيل.
عندما تصبح إسرائيل موضعَ عبادةٍ
لطالما أدانَتْ كلمة الله عبادة الأصنام – أي تعظيم أي شيء أو أي شخص فوق الخالق.
“أداروا لي ظهورهم لا وجوههم… فأين آلهتكم الّتي صنعتموها لأنفسكم؟” (إرميا ٢: ٢٧-٢٨).
سيُحطُّ كبرياء الإنسان ويُذلُّ كبرياء الإنسان؛ وسيُسمو الرَّبُّ وحده في ذلك اليوم، وستزول الأصنام تمامًا.” (إشعياء ٢: ١٧-١٨).
اليوم، يأتي هذا الإغراء نفسه مُغلَّفًا بلغةٍ مسيحيّةٍ ومُخطَّطاتٍ نبويّةٍ. تُعلِّم العديد من الوزارات الغربيّة والمبشِّرين التّلفزيونيّين أنَّ مباركة إسرائيل تعني دعم أفعالها السّياسيّة دون تمحيص – مهما كانت ظالمةً أو قمعيّةً. تُعقد المؤتمرات حيثُ يُرفرف علم إسرائيل أعلى من الصّليب. تُمجِّد الخطب الانتصارات العسكريّة باعتبارها تحقيقًا للنبوءات. تُنظِّم الكنائس “رحلات تضامن” تشمل لقاءاتٍ مع مسؤولين إسرائيليّين، لكنَّها تستبعد لقاءات مع المسيحيّين الفلسطينيّين – كنيسة الأرض الحيّة.
هذه ليسَتْ أعمال إخلاص كتابيّ، بل هي أعراضٌ لعبادة الأصنام – عجلٌ ذهبيٌّ حديثٌ مبني على السّياسة والدّعاية.
شعب الله الحقيقيّ
لم يكُنْ عهد الله مع إسرائيل يومًا دِرعًا للظُّلم أو الهيمنة. لم تُختَر إسرائيل في الماضي لامتياز، بل لغرضٍ ما – أنْ تكون بركةً لجميع الأمم (تكوين ١٢: ٣).
في المسيح، يجد هذا الوعد تحقيقه الحقيقيّ. يكتب الرسول بولس: “إن كنتم للمسيح، فأنتم إذًا ذرية إبراهيم، وورثةٌ حسب الوعد” (غلاطية ٣: ٢٩).
هذا يعني أنَّ شعب الله الحقيقيّ لا يُحدَّد بالعرق أو الجغرافيا أو الحدود السّياسيّة، بل بالإيمان بيسوع المسيح.
عندما يُعلّي المسيحيّون من شأن إسرائيل الحديثة، فإنَّهم لا يدافعون عن وعود الله، بل يحلّون محل الموعود. لقد استبدلوا المسيح بدولةٍ سياسيّةٍ. هذا هو “لاهوت الاستبدال” الحقيقيّ.
إسكات الكنيسة المحلّيّة
لعلَّ النَّتيجة الأكثر إيلامًا لهذه البدعة هي إسكات الأصوات المسيحيّة المحلّيّة – أصواتنا. على مدى ألفي عام، اتَّبع المسيحيّون في الأرض المُقدّسة يسوع عبر الاضطهاد والحروب والاحتلال. لقد تعبَّدنا بالآراميّة والعربيّة والعبريّة واليونانيّة. دفنّا موتانا في هذه الأرض، وبشَّرنا بالإنجيل في شوارعها، وعشنا شهودًا على سلام المسيح وسط صراعٍ لا ينتهي، واستشهد الكثير منّا في سبيل المسيح.
ومع ذلك، فإنَّ العديد من المسيحيّين الغربيّين – الّذين غالبًا ما يتأثَّرون بالجولات الدعائيّة والمُنظّمات المسيحيّة الصهيونيّة – لا يعرفون حتّى بوجودنا. عندما يزورون “الأرض المُقدّسة”، تُرتّب برامج رحلاتهم بعناية من قِبل رعاتهم، وفي معظم الأحيان لا تتضمَّن لقاءات مع مسيحيّين فلسطينيّين محليّين. يُعرض عليهم آثار ومتاحف، لا كنائس حيّة. يسمعون قصص نجاح الدّولة، لا معاناة المؤمنين في ظلِّ سياساتها.
هذا ليس صدفةً. إنَّه جزءٌ من جهدٍ مُموّلٍ جيّدًا للسّيطرة على الرواية المسيحيّة. بالشّراكة مع شبكاتٍ مسيحيّةٍ صهيونيّةٍ، تستثمر بعض الجماعات الصّهيونيّة الملايين سنويًّا للتَّرويج لرحلات حجٍّ تُبرز صورة إسرائيل كـ”أرض الكتاب المُقدّس”، مُتجاهلةً تمامًا جسد المسيح الحالي الّذي يعيش هنا.
غالبًا ما يُوصَم المؤمنون المحلّيّون الّذين يتحدَّثون بروحٍ نبويةٍ عن العدالة وحقوق الإنسان والسّلام بأنَّهم “مُعادون للسامية” أو “سياسيّون”. أمّا الكنائس الّتي تدعو إلى اللّاعنف أو المُساواة – مثل كلّيّة بيت لحم للكتاب المُقدّس، أو كايروس فلسطين، أو بطاركة القدس – فتتعرَّض لتشويه سمعة ومقاطعة من قِبَل جماعات صهيونيّة مسيحيّة نافذة في الخارج.
حتّى على الإنترنت، تستهدف الحملات المُنسَّقة القادة المسيحيّين الفلسطينيّين، مُتَّهمةً إيّاهم بـ”خيانة الكتاب المُقدّس” لمُعارضتهم الاحتلال أو مُعاناة غزّة وعنف المُستوطنين. في السّنوات الأخيرة، واجهت العديد من مؤسَّساتنا ورعاتنا هجمات على وسائل التّواصل الاجتماعيّ ومحاولات لقطع تمويلهم الدوليّ – كلَّ ذلك لأنَّنا تجرَّأنا على قول الحقيقة في حياتنا اليوميّة.
وعندما يجرؤ أحدنا على قول الحقيقة، غالبًا ما يكون الرَّدّ قاسيًا. عندما انتقد المُطران إبراهيم عازار، أسقف الكنيسة الإنجيليّة اللّوثريّة في الأردن والأراضي المُقدّسة، بشجاعة الإبادة الجماعيّة المُستمرّة في غزّة، تعرّض لهجومٍ شرسٍ ووُصف بـ”معاداة السامية” – وهي مفارقةٌ مؤلمةٌ، بالنَّظر إلى أنّه سامي كفلسطينيّ. هذه الاتّهامات لا تهدف إلى التّصحيح، بل إلى إسكاته؛ إنَّها سلاحٌ لترهيب ومحو الشّهادة المسيحيّة الأصيلة من هذه الأرض.
هذا ليس مجرّد سوء فهم، بل هو حربٌ روحيّةٌ على حقيقة الإنجيل في هذه الأرض.
تسليح اللّاهوت
يُستخدم الكتاب المُقدّس اليوم لتبرير ما أدانه الأنبياء: ظلم الفقراء وتشريد الضعفاء.
“ويلٌ للَّذين يسنون القوانين الظّالمة، وللّذين يصدرون الأحكام الجائرة، ليحرموا الفقراء من حقوقهم ويمنعوا العدل عن المظلومين.” (إشعياء ١٠: ١-٢).
للأسف، تعلَّم المسؤولون في إسرائيل ومناصروها استخدام لغة النبوّة المسيحيّة لتأمين الدّعم السياسيّ والماليّ. وتُستخدم مصطلحات مثل “الحقّ الكتابيّ” و”الأرض الموعودة” و”الإنجاز” عمدًا لتعميد سياسات التوسُّع الاستيطانيّ والاحتلال العسكريّ الحديثة.
في الوقت نفسه، يُواجه المسيحيّون الفلسطينيّون – الّذين يرفضون تحويل الإيمان إلى سياسة –
هذه دعوتي للكنيسة العالميّة
كمسيحيّين، نحن مدعوون للوقوف مع الحقّ والبرّ، لا مع القوميّة. يُذكِّرنا الرسول بولس: “مواطنتنا في السماء” (فيلبي ٣: ٢٠).
علينا أنْ نقاوم كلّ محاولة لاستبدال إنجيل الصّليب بلاهوت الغزو. علينا أنْ نُدرك كرامة ودعوة الكنيسة الحيّة في فلسطين وإسرائيل – كنيسة حملت اسم يسوع عبر قرون من المعاناة. عندما تتجاهلنا الكنيسة في الغرب، فإنَّها تنضمُّ إلى الآليّة الّتي تسعى لمحونا. عندما يسمح المسيحيّون للدّعاية بأنْ تحلّ محلّ التَّمييز، فإنَّهم يكفُّون عن كونهم شهودًا للحقّ.
حان الوقت للكنيسة العالميّة أنْ تُصغي – أنْ تسمع صرخات المؤمنين في بيت لحم والقدس وغزّة والنّاصرة. نحن لا نطلب تأييدًا سياسيًّا، بل صدقًا روحيًّا: أنْ ينظر إلينا جسد المسيح كعائلةٍ، لا كمشكلةٍ يجب التّغاضي عنها.
يدعونا الإنجيل إلى ولاء أسمى: “قد أراكَ أيُّها الإنسان ما هو صالح. وماذا يطلب منك الرب؟ أن تعمل بالعدل، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعًا مع إلهك.” (ميخا ٦: ٨).
لذا، يجب أن نُسمّي هذه البدعة باسمها الحقيقيّ: استبدال يسوع بإسرائيل. إنَّها تحريفٌ للإيمان الكتابيّ يستبدل المخلّص المصلوب بدولةٍ حديثة، ويجب على الكنيسة العالميّة رفضها.
لا يكمن رجاء العالم في أيّ علمٍ أو جيشٍ أو وعدٍ سياسيٍّ. إنَّه يكمن فقط في من مات من أجل البشريّة جمعاء، يسوع المسيح، ربُّ جميع الأمم.
لتعود الكنيسة إليه.



تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!