السابق فزعة مدرسة مار متري تعيدنا الى مطلب الشفافية الكاملة لمؤسساتنا المسيحية- من نشرة “ملح الأرض” رقم 126
رابط المقال: https://milhilard.org/vk6i
عدد القراءات: 404
تاريخ النشر: أبريل 26, 2024 3:55 م
المحامي جواد بولس والي يمينه مدرسة مار متري في القدس القديمة
رابط المقال: https://milhilard.org/vk6i
المحامي جواد بولس*
فوجئ العاملون في مدرسة “مار متري” وطلابها البالغ عددهم نحو 300 طالب وأولياء أمورهم يوم الاثنين الفائت بصدور قرار المسؤولين في بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس بإغلاق المدرسة نتيجة “التكلفة التشغيلية العالية والضغط المالي الكبير الذي تعانيه المدرسة” وتحويلها، حسب ما جاء في نص الاعلان الي “مدرسة لصعوبات التعلم ابتداء من العام الدراسي 2026/2025”.
تقع مدرسة “مار متري” داخل أسوار البلدة القديمة في موقع استراتيجي وخطير؛ وتشغل مبنىً تاريخيا عريقا، كبيرا وجميلا مكونا من ثلاثة طوابق و باحات ومرافق أخرى. يشكّل المبنى، من الجهة الغربية، امتدادا لمحيط كنيسة القيامة ونقطة تواصل مع جنوبها حيث مباني منطقة “باب الخليل” التي تفضي بدورها الى منطقة الحي الأرمني. لقد استهدف المستوطنون اليهود والمؤسسة الاسرائيلية خلال العقود الماضية، وما زالوا يستهدفون، جميع هذه المناطق؛ ونجحوا، كما نعرف، بالاستيلاء على عدة مواقع استراتيجية وعقارات تاريخية هامة كانت تملكها البطريركية الأرثوذكسية – ربما كانت أشهرها بين صفقات التسريب المعروفة داخل أسوار المدينة دير “مار يوحنا”، وفندقي “الامبريال والبترا” وعقارات اخرى كانت تملكها البطريركية الأرمنية.
من الصعب أن يستوعب أي مواطن فلسطيني كيف تسوّل لنفسها بطريركية القدس الأرثوذكسية اتخاذ قرار إغلاق المدرسة في هذه الظروف الحرجة التي تمر على المدينة وعلى أهلها، وفي ظل هجمة الاحتلال ومحاولته الاستيلاء على قطاع التعليم الفلسطيني وإخضاعه مناهج التعليم الإسرائيلية والغاء هويته الفلسطينية التي كانت تؤمّنها المدارس للطلاب في القدس الشرقية.
وقد يكون ما اعلنه “اتحاد اولياء امور طلاب مدارس القدس” على صفحته في أعقاب انتشار النبأ حول قرار إغلاق المدرسة معبرا عن هواجس الكثيرين الذين يشعرون فعلا أن “التعليم في خطر ونحن نغلق مدارسنا بأيدينا “وأضافوا: “نحن نحمّل البطريركية والمدعو (ع.ق) مسؤولية هذا القرار.. إن إغلاق مدرسة تاريخية سيكون بمثابة الكارثة ” قالوا فأوجزوا فإن الكارثة؟
ليس من الانصاف ان نحمّل قرار البطريركية وزر الكارثة التي يعاني منها قطاع التعليم الفلسطيني برمته في القدس؛ فهذه العملية/ الكارثة حاصلة منذ اعوام وقد سجّل فيها الاحتلال انجازات ضخمة وواضحة ؛ بيد ان اغلاق المدرسة، وما قد يتبعه من إجراءات قد تقدم عليها البطريركية في المستقبل، من شأنه أن يسهم في تفاقم أزمة قطاع التعليم وأن يشجع على تفريغ البلدة القديمة من المؤسسات الفلسطينية ومن سكانها المرتبطين بخدمات تلك المؤسسات.
من الخطأ أن نتعامل مع قرار البطريركية من باب تأثيره المتوقع على رقعة التعليم داخل البلدة القديمة وحسب ؛ القرار الذي اتخذ من دون استشارة أحد أو أي جهة معنية، يعكس مقدار العجرفة اليونانية المتأصلة منذ قرون تجاه المواطن المسيحي العربي الشرقي، ويؤكد على حالة الاغتراب بينه وبين كنيسته؛ وهي الحالة التي عكفت قيادات هذه البطريركية من اليونانيين الوافدين والمتحكمين برقبة وبكنوز كنائس فلسطين، على خلقها ورعايتها وترسيخها كي تبقى على حالتها كما هي عليه في أيامنا الحالية. وهذا جزء مستفز من الكارثة!
لقد عللت البطريركية قرار إغلاقها للمدرسة تكلفتها المالية العالية، وهي ذريعة اشكالية تندرج تحت بند الديماغوغية أو الادعاء المطلق الذي لا يمكن لأحد التحقق من صحته بأدوات مهنية وموضوعية كما حصل في كل مرة لجأت فيها البطريركية إليه في الماضي وقد تلجأ إليه في المستقبل. فطالما استمر القيّمون على البطريركية في اتباع سياسة التهرب من مواجهة الازمة/الكارثة، وعدم اتباع طريقة ادارة سليمة، لا سيما فيما يتعلق بضرورة نشر الميزانيات وتفصيل أوجه مدخلاتها المالية، مقابل تفاصيل مصروفاتها، كما تقتضي المسؤولية والشفافية وأصول إدارة المال العام والمحافظة على المصلحتين، الكنسية والوطنية، طالما لا يحصل هذا، لن يمنع احد وقوع الخروقات والتسريبات في المستقبل؛ وهذا جزء أساسي في استمرار الكارثة!
لقد حاولت المؤسسات الأرثوذكسية العربية في فلسطين وفي الأردن خلال العقود الماضية التواصل مع القيمين على “اخوية القبر المقدس”، التي تضم أعضاء يونانيين فقط، الى اتفاق يفضي إلى وضع صيغة مقبولة لشراكة ما في ادارة الشؤون المدنية للبطريركية، ولكن جميع المحاولات فشلت من قبل قباطنة البطريركية بدعم جهات. وهذا جزء محبط من الكارثة.
لا يمكنني في هذه العجالة أن أسرد تاريخ هذه العلاقة الشائكة، ولا المرور على احصاء خسائرها، خاصة فيما يتعلق بحالات تسريب العقارات بظروف مستفزة وتكتم المسؤولين عن تنفيذ تلك الصفقات على مصائر ربوعها الهائلة وعلى هوية المستفيدين منها ، لكنني استطيع ان اتساءل كيف يمكن أن تصل البطريركية المقدسية، مرة تلو الاخرى، الى هذا الحال وتعلن تحديدا في المحطات الملتبسة وبالتزامن مع افتضاح وقوع “مصيبة” ما ، عن مواجهتها لضائقة مالية وهي التي يدخل خزائن او صواني بعض كنائسها وأديرتها تبرعات كبيرة يقدمها الحجاج ، وبدل تأجير مئات الدكاكين والمخازن التجارية كما هو الحال في أسواق القدس وغيرها من المدن والمواقع؟ وكيف تضطر كنيسة تضم “هيئتها العامة” بضعة عشرات من الرهبان المنذرين لخدمة مسيحهم وحياة التقشف، أن تعلن عن إغلاق مدارس مقدسية بحجة عجزها المالي، من دون أن تشرح للناس أو لرعاياها، ما قيمة مدخلاتها، على الأقل من الصفقات الكبرى التي نشر عنها في العشرين سنة الأخيرة؟ وكيف صرفت تلك الأموال؟ وفي أي حسابات أودعت، سواء في البلاد أو في البنوك الاجنبية ؟ وهذا جزء آخر موجع من الكارثة!
لا اعرف اذا كان مخطط المسؤولين في البطريركية تحويلها إلى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة، كما جاء في إعلانها المذكور. ولكن إذا كان هذا هو المخطط الحقيقي فعلى المسؤولين أن يشرحوا للمقدسيين كيف كانوا ينفذون قرارهم وهم يعرفون ان من يفتح مدارس التعليم الخاص في القدس هي بلدية أورشليم ووزارة التربية الاسرائيلية، ويعرفون أيضا أنه على مقربة من مبنى المدرسة توجد بعض عقارات البطريركية المحكّرة لجهات إسرائيلية بإيجارات طويلة الأمد؛ وهذا جزء مقلق من الكارثة!
بعد انتشار الخبر عن قرار اغلاق مدرسة مار متري، شرع المعلمون والطلاب بسلسلة احتجاجات أمام مبنى البطريركية، و علت بعض الأصوات والبيانات المنددة بالقرار، فاضطرت البطريركية الى اصدار بيان تعلن فيه عن مبادرة أطلقها البطريرك ويتم بموجبها “تشكيل لجنة خاصة تضم مختصين في المجال التربوي لمتابعة ملف المدرسة على أن ترفع هذه اللجنة ” نتائج أعمالها وتوصياتها خلال أسبوعين “. إلى هنا ما قرأناه على لسان البطريركية، و لنتأمل منه الخير؛ ولكن البعض تساءل، إذا ما كانت هذه خيارات البطريرك وقناعاته الصادقة فلماذا لم يقم بمتابعة ملف مدرسة مار متري مع أولئك السادة المختصين قبل إصدار قرار إغلاق المدرسة وتشويش عالم الطلاب والمعلمين وهم على مشارف نهاية العام الدراسي؟ وهنالك من يراهن، بالمقابل، على أن هدف اقامة اللجنة هو مماطلة من كانوا وراء قرار إغلاق المدرسة، وربما تأجير المبنى لجهة غريبة، حتى ينتهي العام الدراسي الحالي وتموت القضية. وهناك من يظن بأن الهدف من إقامة اللجنة هو تفعيل الضغط على جهات أخرى واجبارها على المشاركة في تغطية أعباء المدرسة المالية كي تستطيع البطريركية معالجة أزمة “ديونها المزمنة”. وهذا جزء من الغيب فلننتظر رحيل الضباب.
اعرف ان جميع تلك الاحتمالات ممكنة وان للحقيقة أكثر من وجه قد تشوهها، مرة اخرى، صافرات وهرطقات جحافل الأعوان والمستشارين والمتواطئين والمنتفعين من “خيرات” اسيادهم، الذين انبروا مباشرة للدفاع عن بطريرك وعن حاشيته “المنزهين”؛ لكنني اتمنى ، من أجل القدس وصالح أهلها، أن تنجح اللجنة في مساعيها وان يتوصل اعضاؤها المقدسيون الى حل يضمن بقاء وجود المدرسة في مبناها هذا العام والأعوام طويلة قادمة. وأكد في الوقت نفسه، على أننا كأبناء أصليين للكنيسة العربية الأرثوذكسية سنبقى نطالب بحقوقنا وفي طليعتها حقنا أن نشارك في ادارة الكنيسة كي نعرف ما لا يريدون لنا أن نعرفه ونمنعه؛ لكنني، أقول كما قلت مرارا: لن ينجح الفلسطينيون المسيحيون وحدهم في مواجهة “روما” فهل سيصحو “أهل الخير” وينضموا شركاء لهم في مسيرة “درب الآلام” من أجل حماية ما تبقى من حلمنا الشرقي؟
* المحامي جواد بولس يرأس اللجنـة التـنفيـذيـة للمـؤتمـر الارثوذكس فـي إسـرائيل
مقالات اخرى عن مدرسة مار متري في نشرة ملح الأرض رقم 126 هنا
أقراء بيان اللجنة التنفيذية هنا
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.