Skip to content

ما بعد مدرسة مار متري.. الطريق الى تعريب البطريركية

رابط المقال: https://milhilard.org/va16
عدد القراءات: 504
تاريخ النشر: مايو 4, 2024 12:03 ص
المحامي جواد بولس والي يساره صورة ارشيفية من مؤتمر دعم القضية الأرثوذكسية العربية في بيت لحم

المحامي جواد بولس والي يساره صورة ارشيفية من مؤتمر دعم القضية الأرثوذكسية العربية في بيت لحم

رابط المقال: https://milhilard.org/va16

بقلم: المحامي جواد بولس رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الأرثوذكسي

من المتوقع أن تنتهي أزمة مدرسة “مار متري” في القدس الشرقية كما انتهت جميع الأزمات التي عصفت بمؤسسات البطريركية الأرثوذكسية منذ مائة عام؛ ولن ينال، بعد انتهائها، المواطنون العرب المسيحيون الأرثوذكسيون حقوقهم الكاملة ولا حتى جزءا صغيرا منها. فبعد العاصفة التي أعقبت إعلان المسؤولين في البطريركية عن قرارها بإغلاق المدرسة، التي تضم بين جدرانها نحو ثلاثمائة طالب فلسطيني من سكان البلدة القديمة، وتفاديا لتبعاتها المتوقعة، أعلنت البطريركية مضطرة عن تشكيل لجنة مؤلفة من عدد من الشخصيات المقدسية للبحث في مسببات الأزمة ولطرح تصوّراتها والسبل لحلها. 

ولقد أصدرت اللجنة قبل يومين توصياتها وفي مقدمتها جاءت التوصية الأهم ، من حيث النتيجة المتوخاة وهي، كما ورد في النص: “ضرورة إلغاء قرار إغلاق مدرسة مار متري من قبل بطريركية الروم الأرثوذكس بشكل فوري والتأكيد على أهمية هذا الصرح التربوي والنهوض به وضمان استدامته “. بعد استلام توصيات اللجنة، أصدرت البطريركية بيانًا أفادت نهايته على أنه “في خطوة تعكس روح التعاون والمسؤولية قرر غبطة البطريرك إلغاء قرار لجنة المدارس بإغلاق المدرسة.. وأشار غبطته الى انه بفضل الله والجهود المشتركة والتعاون، خاصة مع اللجنة المختصة، سيظل باب التعليم مفتوحًا للطلاب في مدرسة مار متري..”.

هذا كما جاء في البيان الذي اعفى البطريرك وهو رئيس الهرم بلا منازع من مسؤوليته عن القرار الأصلي ولا يتطرق لب القضية والخلل في نهج البطريركية . أتمنى، كما يتمنى كل فلسطيني غيور على مستقبل المجتمع الفلسطيني المقدسي، أن تنتهي هذه الأزمة وتبقى المدرسة صرحًا تربويا متاحًا لأهل البلدة القديمة، وأن تسلَم بناية المدرسة نفسها من أية “مغامرة” قد يقدم عليها القيّمون على ادارة شؤون هذه البطريركية بحجة أزماتها المالية، كما كان يحصل معها من حين لآخر منذ عقود طويلة. 

 لا أقول هذا من باب التجني أو عدم فهم المقروء؛ فأنا أكتب مقالتي بعد مرور مائة عام على  تأسيس “المؤتمر العربي الأرثوذكسي الأول” الذي انعقد في مدينة حيفا في أواسط عام 1923 وجاء انعقاده في ظروف سياسية واجتماعية تكاد تكون مماثلة لظروفنا الراهنة، خاصة في كل ما يتعلق بطبيعة العلاقات بين العنصر اليوناني، أي اليونانيين، وبين المواطنين العرب الأرثوذكسيين. ولا اقصد بأولئك اليونانيين مجموعة الرهبان الأعضاء في “اخوية القبر المقدس” وعلى رأسهم البطريرك والكهنة الذين يشكلون معه ما يسمى “المجمع المقدس” وحسب، بل حكومات اليونان المتعاقبة أيضا والتي كان مسؤولوها يتدخلون من أجل إبقاء الهيمنة اليونانية الاستعمارية على الكنيسة الأرثوذكسية في بلادنا.

لم تبدأ الأزمة العربية الأرثوذكسية في العام 1923؛ في النزعة الاستعمارية واضطهاد الرعية المسيحية الأصيلة في البلاد غذتها الإمبراطورية العثمانية، ورسخها، بدعم من العثمانيين، اليونانيون الذين استولوا على البطريركية وكنوزها التراثية، وساندها لاحقا الانتداب البريطاني الذي وقع على الأردن وفلسطين.  لقد أصدرت سلطات الانتداب “قانون البطريركية الأرثوذكسيه لعام 1921 ” من دون أن يراعي حقوق الرعية المسيحية، فكان محبطًا ومخالفًا لآمالها الوطنية. وكردّة فعل على إصدار القانون وامتثالا الروح النهضوية الوطنية الأرثوذكسية التي كانت سائدة وقتها، بادرت قيادات الأرثوذكسيين الى عقد مؤتمر يجمع الشمل ويوحد الصفوف ويعلي كلمة أصحاب البلاد في وجه مستعمريها،

فكان “المؤتمر العربي الأرثوذكسي الأول” في مدينة حيفا. لقد تداعت الوفود التي مثلت مسيحيي المدن والقرى في شرقي الأردن وفي فلسطين الى لقاء تاريخي لم يستطع البريطانيون ألا يتفاعلوا مع تداعياته ولو إلى حين ؛ فأصدر المؤتمرون بيانا  تضمٌن مجموعة قرارات، منها: تفعيل مجلس مختلط ثلثاه من العلمانيين الوطنيين وثلثه من الاكليروس؛ فتح مدرسة اكليريكية وافساح المجال لأبناء الرعية من الارتقاء إلى أعلى درجات الكهنوت وهو ما  كان متاحًا للكهنة اليونانيين فقط: لا يحق للبطريرك تمثيل الملة الأرثوذكسية إلا بموافقة المجلس المختلط؛ مطالبة الحكومة بأن يكون تأجير الأوقاف بالمزاد العلني.. وتعيين عضوين من أعضاء اللجنة التنفيذية للاشتراك في تأجير الأوقاف؛ مطالبة الحكومة باسترجاع الأملاك التي بيعت.. وإن كان لا بد من بيعها بالمزاد العلني وأن تكون الاولوية بالشراء للمعاهد الخيرية الطائفية؛ مطالبة الحكومة بالايعاز الى لجنة تصفية الديون بإصدار ميزانية بأسرع ما يستطاع.

كما صدر في نهاية المؤتمر القسَم الأرثوذكسي الذي كان نصه: “إننا نقسم بالله العظيم و صليب سيدنا المسيح الكريم و إنجيله المقدس أن نحافظ بكل قوانا على قرارات المؤتمر الأرثوذكسي العربي الأول كافة، وألا ننحاز الى الأعداء المناهضين لهذه النهضة، وإن خالفنا هذا العهد نكون مسؤولين بين يديّ الله ونشهد على ذلك”. ما أشبه أمسنا ويومنا، وما أحوج بعضهم الى مثل هذا القسم. 

لقد توالت الأحداث وازداد الاجحاف بحق الرعية العربية وتهميشها؛ ولم تتوقف حكومة الانتداب عن دس مناوراتها ومماطلتها حتى شعرت قيادات الطائفة بضرورة التحرك واستعادة القوة وتوحيد الكلمة، فدعت الى عقد المؤتمر الأرثوذكسي الثاني الذي التأم هذه المرة عام 1931 في مدينة يافا. حضر المؤتمر  85 مندوبا عن جميع أنحاء فلسطين وشرقي الأردن؛ وقرر المؤتمرون التمسك بقرارات المؤتمر الأول والتعهد “بالاستمرار في مقاطعة الانتخاب البطريركي، وعدم الاعتراف في أي بطريرك لا يشترك الشعب في انتخابه حتى تنال الطائفة حقوقها كاملة”. وعبّروا عن رفضهم “لتدخل قنصل اليونان في القدس أو غيره من الأجانب في أمور البطريركية والاخوية والأماكن المقدسة لأنه تدخل أجنبي لا يبرّره ما لهذه البطريركية والاخوية والمزارات من الصبغة الفلسطينية.” جاهروا بما لا يقوله اليوم بيننا كثر.   

لا مجال في هذه العجالة للاستفادة حول تاريخ هذه العلاقة اليونانية العربية المسيحية الموجعة والمستفزة؛ فبعد المؤتمر الأرثوذكسي الثاني توالت النضالات العربية المسيحية ضد سياسة الاستعلاء اليونانية والعبث بحقوق الرعية والتفريط في ممتلكاتها، وقد تم في سبيل تنظيم مواجهتها عقد عدة مؤتمرات، قبل عام النكبة وبعدها. 

 لقد احتضنت عمان في العام 2007  أحد أهم تلك المؤتمرات، الذي شاركت فيه وفود تمثل الوجود المسيحي الأرثوذكسي في الأردن وفي الضفة الغربية المحتلة وفي الداخل الفلسطيني. عقد المؤتمر في ظروف استثنائية وعاصفة حيث كانت أصداء صفقات بيع عقارات باب الخليل تملأ أجواء الشرق غضبا وزبدا. أكد معظم المتداخلين على اعتبار قضية عقارات البطريركية والمقدسات المسيحية في فلسطين والأردن قضية وطنية اردنية/ فلسطينية ولا يمكن لاية جهة أن تتلاعب فيها أو أن تغيّبها تحت أي طائل أو ذريعة. بالرغم من حدة النقاشات  والمناكفات التي أثارها بعض المشاركين المدافعين عن البطريركية، فقد تجلت الروحان الوطنيتان، الاردنية والفلسطينية، بنص البيان التاريخي الختامي حيث تضمن قرار  تأثيم القيمين على إدارة البطريركية والتأكيد على مسؤوليتهم ودورهم في التفريط بعقارات الكنيسة وضرورة محاسبتهم ومحاسبة أعوانهم من المستشارين والمنتفعين، واقصائهم عن مواقعهم .  

بعد عشرة أعوام من مؤتمر عمان وتحديدا في الأول من شهر أكتوبر/ تشرين أول سنة 2017 ، وبعد تفاقم ظاهرة التفريط بعقارات الكنيسة، دعت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، والمجلس المركزي الأرثوذكسي في فلسطين وفي الأردن، والحراك الشبابي العربي الأرثوذكسي لعقد “المؤتمر الوطني لدعم القضية العربية الأرثوذكسية” تحت شعار ” أوقاف الكنيسة الأرثوذكسية قضية أرض ووطنا وانتماء وهوية”.

عكس شعار المؤتمر موقف الداعين المساند للقضية العربية الأرثوذكسية والمعارض للتفريط بأوقاف الكنيسة وعبر عن الروح التي سادت أعمال المؤتمر، الذي جاءته الوفود “بدافع الشعور بالمسؤولية الوطنية وتلبية لنداء الواجب الوطني والقومي والإنساني، تجاه قضية استحكم فيها الظلم الواقع، على امتداد خمسة قرون، على العرب الأرثوذكسيين كجزء أصيل من شعبنا الفلسطيني، حيث الهيمنة والاستئثار من العنصر اليوناني على مقدرات الكنيسة العربية الأرثوذكسية للدرجة التي بلغ فيها ضياع الكنيسة والارض والمستقبل واقعا قائمًا ينذر بمخاطر كارثية حقيقية تهدد مستقبل القضية الوطنية الفلسطينية”.

لقد نجح المؤتمرون بالكشف عن المسؤولين عن “ضياع الكنيسة والأرض والمستقبل” تماما كما تعرّف اليهم من قبلهم المؤتمرون في عمان؛ وصدرت بحقهم في الحالتين القرارات المناسبة؛ ولكن .. مرت السنون وما زالت “الهيمنة والاستئثار من العنصر اليوناني” على حاله، وما زلنا “نحن العرب الأرثوذكس جزءا اصيلا من شعبنا الفلسطيني” وما زالت عقارات الكنيسة  تتقلص وتتبخر ..  والناس تسأل وتتساءل لماذا وكيف؟ 

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

Skip to content