
السابق 133 طالبًا يتأهلون للمرحلة النهائيّة من المسابقة الكتابيّة لمدارس الرّوم الأرثوذكس في الأردن
فيما يلي نص كلمة مؤلِّف كتاب “الأدلّة لوجود الله وظهوره” في حفل التوقيع الّذي جرى في المدرسة المعمدانيّة عمّان يوم الجمعة 16 أيّار 2025
ينفردُ الإيمانُ المسيحيّ بالجمعِ بين أمرين يصعبُ الجمعُ بينهما، هما غرابة ادّعاءاتِه، ووفرةُ أدلّته. فمن جهة، نرى ادّعاءاته الجريئة والفائقة للطبيعة تتحدّى الفهمَ البشريَّ الطبيعيّ: إلهٌ واحدٌ كائنٌ في ثلاثة أقانيم متساوية في الجوهر، الثاني منها، الله الابن، ولد من عذراء فصار إنسانًا بالتّمام من دون انقطاعه ولو للحظةٍ أن يكون الله بالتّمام. مات مصلوبًا لكنَّه قام مِن تلقاء نفسه كما سبق وأنبأ ثمّ صعد إلى السماء وهو آتٍ ثانيةً. نعم، ادّعاءاتٌ هي الأعجب، لكنّها مدعّمةٌ بفيضٍ من أدلّةٍ موضوعيّةٍ قابلةٍ للفحص … لأنّ هذا الإله حلّ بيننا هنا في أرضنا، في الزمان والمكان.
في المقابل ترى أديانَ العالمِ الأخرى وفلسفاتِه قائمةً على ادّعاءاتٍ ميتافيزيقيّة عن إلهٍ أو قوّةٍ ما في العالم الغيبيّ، هناك حيث لم يرَ أحدٌ شيئًا أو يسمع، أو ادّعاءاتٍ عن نبيٍّ أو طريق، من دونِ أيِّ دليلٍ موضوعيٍّ قابلٍ للفحص. وبالمناسبة، أحّدُ هذه الأديان هو الإلحادُ نفسُه، لأن الإلحادَ هو اعتقادٌ عن الله، فهو مذهبٌ دينيّ، وهو، للعلم، بلا أيِّ دليلٍ ويناقض كلَّ دليل.
تجتاحُ الغربَ منذ عصرِ التنوير المظلم ضلالةٌ أصبحت حقًّا مقبولاً لا بل لازمًا، مَفادُها أنّك لا تقدرُ أن تتأكّد من شيء، عدا عن معادلات الرياضيّات، بيقينٍ مطلق، بل لا بدّ أن تُبقي نسبةً من الشكّ. وأكثر ما يُحزِنُ أن ترى حتّى مفكرّين مسيحيّين يقعون في هذه الضلالة فيعظّمون الشكّ وكأنّه سمةٌ للتفكير العلميّ. يقولون: لا يمكنك كمؤمنٍ أن تحوز على يقينٍ موضوعيٍّ مطلق (absolute certainty) بل تيقّنٍ اختباريٍّ قلبيّ (certitude). أرجوكم، لا تقعوا فريسةً لهذه الضلالة. وأقولها بملء الفم: الله ترك لنا كمًّا وفيرًا من أدلّةٍ واضحةٍ تعملُ معًا لتعطي كلِّ باحثٍ منطقيّ عن الحقّ يقينًا موضوعيًّا عقليّاً قاطعًا لا ينتابه ظلُّ شكٍّ بوجود الله وظهوره في الجسد. هذا اليقينُ الموضوعيّ العقليّ يعملُ مع اليقين الاختباريّ القلبيّ.
هذه الأدلّة مهمّةٌ للمؤمن قبلَ البَعيد ليكون إيمانَه صلبًا راسخًا بالقلب والعقل معًا، اختباريًّا وموضوعيًّا، إيمانًا خاليًا من أيّ شكّ أو ظلِّ شكّ، فيه يرى المؤمنُ اللهَ بالإيمانِ كما لو بالعيان. إيمانٌ كهذا يمدُّ المؤمنَ بقوّةٍ تنقل الجبال فيحيا حياةَ الانتصارِ إلى الملء. ويقينٌ كهذا يعطيه مناعةً ضد التشكيك الأصعب، عندما يضربُ الألم بابَ بيتِه فيصلّي ويصلّي ولا جواب ويبدو الاختبارُ مناقضًا للإيمان. هنا يأتي العقل العارفُ بأدلّتِه الموضوعيّةِ الدامغة فينقذُ القلبَ الحائرَ المتألّم … تمامًا كما أنّ القلب المحبّ المختبر يأتي ليدعم العقل العاجز عن فهمٍ ما. ويقينٌ كهذا يمكّنُ صاحبَه من مساعدةِ كلِّ مؤمنٍ يتصارع مع الشكّ أو وقع فريسةً له، من أهل بيته أو كنيسته، فيُقوّي إيمانَه ويريحَه، أو يمنعه من الارتداد.
وللبعيد الذي يبحثُ عن الحقِّ بقلبٍ صادقٍ وعقلٍ منفتح، ولكنّه يصطدم بأسئلةٍ ومشكّكاتٍ فكريّة، تعمل هذه الأدلّة بمرافقة عملِ الروح على إزالةِ هذه العوائق وفتحِ الطريقِ أمامَه لقبول الحقّ. ونحن نعلم تمامًا بأنّ اختبارَ الولادةِ الجديدة يتمّ ُبعمل الروحِ القدس واجتذابِ الآب، لا بجُهدٍ شخصيٍّ ولا بحكمةٍ بشريّة. هذه الأدلّة إذًا ليست بديلًا عن عملِ الروح وقوّة الصلاة، بل هي مترافقةٌ معها مساندةٌ لها.
الإيمانُ ليس قفزةً في ظلامٍ بلا دليل، بل هو قفزةٌ في نور الأدلّة. والأدلّةُ تملأ الكونَ الّذي صنعه الله، وهي تواقيعُه على خليقته، نستنتجُها بدراسة المنطق والخليقة والتاريخ والكتاب المُقدّس، وهي جميلةٌ مثيرةٌ، وقد وفّرها الله لنا لكي نعرفَها لا لكي نهملَها. هي بصماتُ أصابعِه الّتي تملأ الكون الّذي صنع، وهي صوتُه المدوّي عبر التاريخ لمن له أذنان للسمع.
ولمن يبني إيمانه على مشاعر القلب ويستثني العقل أقول: تذكّر الوصيّة الأولى والعظمى: تـُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. محبّة الرب الحقيقيّة تشمل محبّة الحقّ، لأنّه هو الحقّ، وتعني السعي لمعرفة الحقّ وفهمه.
يحتوي هذا الكتابُ على ثلاثة أجزاء مرتّبةٍ بتسلسلٍ منطقيّ: الأوّل يستعرض النظرات الكونيّة الرئيسة (worldviews) الّتي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ المكتوب من أديانٍ وفلسفات، ثمَّ يفحصُها وِفْقَ معايير ثابتة تبيّن تفرّدَ الإيمانِ المسيحيّ وحدَه دون سواه. أحّدُ هذه المعايير هو قوّةُ الأدلّة، وهذا ينقلنا إلى الجزء الثاني، الأدلّةُ على وجود الله، وهي كثيرةٌ مثيرةٌ تشملُ الأدلّة الكونيّة والتصميميّة والأخلاقيّة وغيرَها. الله موجود، ولكن من هو وما الطريق إليه؟
ينقلنا هذا إلى الجزء الثالث، الأدلّة على ظهور الله متجسّدًا في المسيح، ومحورُها الدليلُ الحاسم الأهمّ الّذي ربط المسيح به صدقَ رسالتِه وادّعاءاتِه، حدثُ القيامة. هذا الجزء يبدأُ بالأدلّةِ على أصالةِ الأناجيل وزمنِ كتابتِها وصحّة كتابتِها من قبل شهود عيانٍ أو نقلاً عنهم، وهذا مهمّ لأنّنا نعرف عن حياة يسوع من هذه الأناجيل. ثمّ نستعرض الأدلّة القاطعة اللّامعة على قيامةِ المسيح. بعدها ننتقل إلى أدلّةٍ مهمّةٍ أخرى كالمصادر الخارجيّة الّتي تشهد عن تاريخيّة المسيح، وتتميم النبوّات، والآثار، والمعجزات، وأثر المسيحيّة في الحضارة العالميّة. وينتهي الكتاب بفيضٍ من المراجع المستخدمة لكلّ من يحبّ التوسّع في أحّد مواضيعه.
أخيرًا، أشكر الله لأنّه ترك لنا كلّ هذه الأدلّة الوافرة لكيلا نحتارَ أو نضعف أمام شراسةِ تضليل العدوّ وتشكيكه، بل يكون إيمانُنا بصيرًا واثقًا بالقلبِ والفكرِ معًا فنحيا بإيمانٍ ينقلُ الجبال. نعم، أرى اللهَ اليوم بالإيمان كما لو بالعيان. سيأتي يوم، وهو قريب، أرى الله فيه ليس كما بالعيان، بل بالعيان، وجهًا لوجهٍ حين أقف أمامه في المجد ويتحقّقُ أمام عينيَّ أجملُ وعدٍ في الكتاب: وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَٱسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ. آمين
كلمة شكر خاصة
وكان المؤلف قد بدأ حديثه في ندوة التوقيع الّتي عقدت في المدرسة المعمدانيّة 16-5 بتقديم كلمة شكر لمن ساهم في إنجاز هذا الكتاب المهم:
كلماتُ شُكرٍ صادرة من صميم القلب لأشخاصٍ ما كان لهذا العملِ أن يكونَ كما هو الآن بدونِ مساهماتِهم المؤثّرة. أشكر الدكتور نبيل قسطه المدير العامّ لجمعيّة ثمار في بيروت، مالكة دار منهل الحياة، أوّلَ من قرأ الكتابَ بمسودّتِه الأولى فآمن بأهميّة رسالتِه ووجّه عمليّةِ النّشرِ من البدء لتكونَ عملًا مشتركًا بين بيروت والقاهرة وعمّان، وعمل على تذليل الصّعوبات.
أشكر دار منهل الحياة في بيروت بإدارة الدكتورة ساندرا الحاج على جهودِها الحثيثة وتعبِها الموصول في الإشرافِ على عمليّة النشر وتنسيقِها بكفاءةٍ فائقة، والمبدعين العاملين معها ولا سيّما ميشيل أنكيري مصمّمة الغلاف وإليان تابت مصمّمة الداخل ومدقّقة النصّ، وناجي جدعون مدير العلاقات. ولا أنسى أن أشكر الإعلامي اللّبناني المتمرّس سعيد ملكي على إنتاج البودكاست الّذي سيملأ الميديا والأحبّاء الّذين شاركوا في المقابلات العديدة الّتي أجرتها ساندرا باقتدار، وأشكر دور الأخ قيس شمّاس فيها.
كما أشكر الدكتور القس أندريَّه زكي رئيس الطائفة الإنجيليّة في مِصر ورئيس الهيئة القبطيّة الإنجيليّة، مالكة دار الثقافة، على السماحِ بنشر الكتاب. وأشكر دار الثقافة في القاهرة، أكبر دور النشر المسيحيّةِ العربيّة، بإشراف مديرتها المعروفة أماني لطيف، والفريق المبدع العاملِ معها، على ووضع إمكانيّات الدار وموقعها الاستراتيجيّ في خدمة رسالة الكتاب وعلى دورهم الفعّال في الميديا، وعملِهم بمهنيّة عالية مع بيروت وعمّان بروح الملكوت لمجد ملك الملكوت. أشكر أيضًا خدمة النشر المعمدانيّة الأردنيّة مُمثّلةً بمؤسِّسها ومديرِها يزن ملكونيان على جهودِه الفاعلة وديناميكيّته الدافعة وانتباهه للتفاصيل الدقيقة وترتيبه حفل هذا اليوم، كما أشكر المحرّر المقتدر واثق حدّادين على مراجعة النصّ بكلّ كفاءة. وبالتأكيد أشكر فريق ألحان الرجاء بقيادة د. رند حدّادين على نقلنا إلى أجواء السماء ومحضر سيّدِها موضوع هذا الكتاب. كما أشكر الأحبّاء د. رامي هلسه والقس يزن فاخوري والمهندس قيس شمّاس على مساهمتهم في ندوة اليوم. ثم أشكر بالتأكيد كلَّ أخٍ وأختٍ منكم على حضوركم المشجّع في هذا اليوم. أشكركم جميعًا على جهودكم المخلصة التي بذلتموها وتبذلونَها لمجد السيّد، لأَنَّه لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلَّتِي أَظْهَرْتـُمُوهَا نَحْوَ ٱسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ ٱلْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ.
أشكر اليوم عوده ومها، اللّذَين رَبَيْتُ وإخوتي في بركةِ بيتِهما المتوّجِ باسم يسوع، المفعمِ بحبّه، والعابقِ بعطره، والمشبَعِ بإنجيله، والصادحِ بتسبيحه … ليكونَ يسوعُ كلَّ شيء، ملءَ عيني، وحبَّ قلبي، ونورَ فكري، وهدفَ عمري …
أخيرًا، وبالأولى، أشكر عبير، رفيقةَ مشوارِ العمرِ الجميل ونصفي الآخر، على دعمَِها العظيمِ عبرَ السنين الطويلة، وتفانيها الصامتِ من خلف الستار، في مجد الخفاء. من دونِها ما كان لهذا الكتاب أن يكون. ثمنُها يفوق اللّآلئ.
وقبل الكلّ، أشكر موضوع هذا الكتاب، يسوع، الّذي شرّفني وشرّفنا بأن نكون سفراءَه في الغربة، ونورَه في الظلمة.
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!