Skip to content
Skip to content

قراءة إنجيليَّة في التصريح الفاتيكانيِّ الأخير حول العذراء مريم

تاريخ النشر: نوفمبر 6, 2025 5:59 ص
artworks-000060093258-yksccx-t500x500

بقلم: يزن ملكونيان

أثار البيان الصادر منذ وقتٍ قريب عن دائرة عقيدة الإيمان في الفاتيكان، بعنوان “أمُّ الشعب الأمين” (Mater Populi Fidelis)، موجةً واسعةً من التفاعل في الأوساط الكاثوليكيَّة، بعدما قدَّم توضيحًا رسميًّا حول ألقاب العذراء مريم، ولا سيَّما رفضِ استخدام لقب “شريكة في الفداء” (Co-redemptrix).
وعلى الرغم من أنَّ الوثيقة لم تتضمَّن أيَّ تعليمٍ عقائديٍّ جديد، بل جاءَتْ لتوضيح المفاهيم القديمة المتعلِّقة بدَورِ العذراء في خُطَّة الخلاص، فقد جاءَتْ ردود الفعل الشعبيَّة لافتة، وفي أحيانٍ كثيرة متحفِّظة أو رافضة.

بين العقيدة والممارسة

تكشف هذه الردود عن فجوةٍ واضحةٍ ما بين التعليم الرسميِّ للكنيسة والممارسة الشعبيَّة المتوارثة على مرِّ القرون؛ فالناس عادةً لا يحفظون نصوصَ المجامع ولا الوثائق العقائديَّة، بل يحفظون ما يمارسونه في الصلوات والتراتيل والطقوس اليوميَّة.
لذلك، حينما تُصدر الكنيسة توضيحًا يُعيد تأكيد أنَّ الفداء هو عمل المسيح وحده، وأنَّ مريم العذراء لم تكن “شريكةً في الفداء” بمعنى المساواة مع المخلِّص، يشعر كثيرون أنَّ ما أُعلن يصطدم بما اعتادوه في العبادة والتقوى الشعبيَّة.

وهنا لا تكمن المشكلة في التعليم الكاثوليكيِّ الرسميِّ بحدِّ ذاته، بل في التراكمات التعبيريَّة والممارسات الشعبيَّة التي انزلقت على مرِّ السنين إلى مفاهيمَ غير دقيقة لاهوتيًّا، حتَّى صارت العادة أقوى من العقيدة.

دعوة إلى فحْصِ الممارسات في ضَوء كلمة الله

يمثِّلُ هذا الجدلُ فرصةً مهمَّةً لكلِّ الكنائس –لا للكاثوليك وحدهم، بل أيضًا للإنجيليِّين والأرثوذكس- كي تراجع ممارساتها في ضَوء كلمة الله، لا في ضوء التقليد فحسب؛ فالناس لا يتذكَّرون العقائد، بل الممارسات. ومن هنا، فإنَّ الإصلاحَ الحقيقيَّ والافتخارَ بالتاريخ لا يكون فقط بتغيير النصوص، بل بفحص كلِّ ممارسةٍ دينيَّةٍ في نور الكتاب المقدَّس:
هل تمجِّد المسيح وحده؟
هل تتَّفق مع الإعلان الإلهيّ؟

هذه هي الدعوة التي نادى بها الإصلاح الإنجيليُّ منذ انطلاقته: أن يُقاس كلُّ تعليم أو طقس بميزان كلمة الله، وأن يُردَّ المجد إلى الله وحده. وفي هذا التصريح نجد تألُّقَ ثلاثٍ من أصل خمس أعمدةٍ إنجيليَّة تتجلَّى في الموقف الفاتيكانيّ: بالمسيح وحده، بالكتاب المقدَّس وحده، ولمجد الله وحده. فالإيمان الكتابيُّ لا ينتقص من مريم العذراء، بل يكرِّمها تكريمًا حقيقيًّا بوضعها في موقعها الصحيح مثالًا للإيمان والطاعة، لا موضوع العبادة.

الوثيقة الفاتيكانية لم تُضعف إكرام العذراء مريم، بل أعادَتْ وضعَه بحسب الأساس الكتابيِّ الصحيح.

دعوةٌ إلى مراجعة الألقاب غير الكتابيَّة

تفتحُ المذكِّرة الأخيرة البابَ أمام مراجعةٍ شاملةٍ لبعض الألقاب والمصطلحات اللاهوتيَّة التي شاع استخدامها دون تدقيق؛ فعبارات مثل “غافرة الخطايا” أو “مستجيبة الدعاء” أو “باب السماء” هي أخطاءٌ لاهوتيَّةٌ واضحة؛ لأنَّها تنسب إلى مريَم العذراء ما هو حقٌّ للمسيح وحدَه.

يقول الكتاب المقدَّس بوضوح: “وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ” (١يوحنَّا ١: ٧). “وليس بأحَدٍ غيره الخلاص” (أعمال ٤ :١٢).

إنَّ الكنيسةَ مدعوَّةٌ دائمًا لأن تراجعَ لغتَها الليتورجيَّة والشعبيَّة، لئلَّا تصيرَ الأقوالُ التَّقويَّة تعاليمَ غير دقيقة؛ فالإكرام الحقيقيُّ للعذراء لا يكون بإعطائها صفاتٍ إلهيَّة، بل بالاقتداء بإيمانها وتواضعها وخضوعها لمشيئة الله. وإذا كان المسيح وحدَه هو الفادي، فكلُّ تعبيرٍ آخَرَ يجب أن يُفهم في ضَوء هذه الحقيقة المركزيَّة.

الإكرامُ الحقُّ لا يُلغي المركزيَّة

الإيمانُ الإنجيليُّ لا ينتقصُ من مريم العذراء، بل يُعيدُها إلى موقعها الكتابيِّ بوصفها مطوَّبة ومكرَّمة، لكنَّها تظلُّ إنسانةً مخلَّصةً بنعمة الله مثلنا جميعًا.
أمَّا العبادة، فهي للمخلِّص وحدَه؛ فكلَّما عظَّمْنا المسيح في قلوبنا، ازدادَ إدراكُنا لمجدِ الله الذي تجلَّى في حياةِ مريم، لا بواسطتها.

في الختام

الوثيقة الفاتيكانية لم تُضعف إكرام العذراء مريم، بل أعادَتْ وضعَه بحسب الأساس الكتابيِّ الصحيح.
وعلى الرغم من أنَّها أحدثَتْ صدمةً لدى بعض الأشخاص، ففي جوهرها هي خطوةٌ إصلاحيَّةٌ نزيهة، تُعيد مركَزَ الإيمان إلى المسيح وحده، وتدعو الكنيسة كلَّها لأن تراجعَ كلَّ الممارسات في ضَوء كلمة الله؛ لأنَّ الكلمة وحدَها تظلُّ هي المعيارَ النهائيَّ للإيمان والعمل.

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment