Skip to content

عيد ميلاد مجيد، وعرض مستمرّ للمتطرّفين عبيد العنعنة والتّقليد

رابط المقال: https://milhilard.org/umlp
تاريخ النشر: ديسمبر 28, 2024 3:20 م
2-Azzeh((
رابط المقال: https://milhilard.org/umlp

د. مهند العزة*

لا ولن تنقطع الظاهرة السّنويّة المُعيبة الّتي تتأجّج مفاعيلها مع حلول عيد الميلاد المجيد ورأس السّنة الميلاديّة، حيث يجد شرذمة المتقوقعون على أسلافهم الناعقون خارج كل زمان ومكان مساحتهم الّتي يفردون فيها عورات عضلات حناجرهم المتقعّرة وأطراف أناملهم المتعرّقة الّتي تلوِّث شاشات هواتفهم وحواسيبهم مُسمّمةً فضاءات وسائل التّواصل الاجتماعيّ في وجه جيرانهم وأساتذتهم وزملائهم بالتّحذير من أنّهم «لن يهنّئوهم بالعيد لأنَّ في ذلك إقرار بمعتقدهم الباطل وهو ما لا يرضاه الله ورسوله». وكأنَّ المسيحيّين «لا ينامون اللّيل وهم يبتهلون إلى الله العلي القدير أن ينالهم شرف تهنئة هذه الشرذمة».
السّؤال الجوهري الّذي يجب دائماً طرحه والإجابة عنه ثمَّ تأمّل هذه الإجابة هو: هل من يرفضون ويحرِّضون على عدم مشاركة المسيحيّين فرحة احتفالهم بالعيد يختلقون مشكلةً وبروباغندا ويفترون أحكاماً شرعيّةً وتأويلاتٍ من اُمّ رؤوسهم، أم أنَّهم فعلاً لديهم من النّصوص والأدلّة الشرعيّة ما يؤيّد مسلكهم الاستئصاليّ هذا؟.
واقع الأمر أنَّ المسألة لا تحتاج لكبير عناء للإجابة عنها، إلّا أنَّ العناء الحقيقيّ والجهد المطلوب يكمنان في ما ينبغي للمؤسّسات الدّينيّة الرّسميّة مدعيّة الاعتدال القيام به لاتخاذ موقف ينهي هذه المهزلة الأخلاقيّة (انقر هنا) وينشئ جيلاً جديداً مُحصّناً من انحدار منظومة قيمه إلى حضيض مناقشة جواز إلقاء السّلام والتحيّة والتّهنئة للآخرين بمناسباتهم.
يعتبر كتاب أحكام أهل الذمّة لابن قيم الجوزيّة الفقيه الحنبلي الشّهير عمدة المراجع لدى مشايخ وفقهاء المسلمين متقدّمهم ومتأخّرهم في فهم المواقف والأحكام الشرعيّة من المسيحيّين وغيرهم من «أهل الكتاب»، ابتداءً من فرض الجزية ووجوب تحصيلها وجواز الزواج من نسائهم وحرمة تزويج رجالهم نساء المسلمين وحرمة التّوارث والحضانة وحرمة دخولهم مكّة والمدينة وحرمة تهنيئتهم بأعيادهم. وقد اعتمد ابن قيم الجوزيّة في تأويله وتحليله واستنتاجاته الّتي تجسِّد التطرُّف والإقصاء في أبشع صوره؛ على جانب من أقوال المفسّرين ورواة الحديث وإجماع العلماء في كلّ مسألة على حدة.

معظم مواقع الفتوى في الدّول الإسلاميّة تجمع على أنَّ تهنئة المسيحيّين بـأعيادهم هي ممارسة مُحرَّمة

لم يكُن كتاب أحكام أهل الذمّة كتابًا يُحاكي سياقه السّياسيّ والاجتماعيّ بحيث يتلاشى ما حمله من فتاوى مقيتة ملؤها البغض والكراهيّة للآخر بانتهاء تلك السّياقات بل استصحبت أحكامه حتّى يومنا هذا وسوف تستمرّ إلى ما لا نهاية طالما كان الدّين هو محدّد العلاقة بالمخالف في المعتقد والجنس والعرق واللّغة والانتماء السّياسيّ.. الشّاهد أنَّ معظم مواقع الفتوى في الدّول الإسلاميّة الّتي تصنَّف –ويا للسخرية- على أنّها مُعتدلة أو شبه مُعتدلة تجمع على أنَّ تهنئة المسيحيّين بأعيادهم هي ممارسة مُحرّمة وغير جائزة، ولأسباب تفوح منها رائحة الاستئصال والأحكام النمطيّة الّتي تعكس انعزالًا ثقافيًّا وتحوصلًا فكريًّا سرمديان، فهذه الفتوى من موقع إسلامويب الرسميّ على سبيل المثال (انقر هنا ) يقول مفتيها بكلّ أريحيّة: “الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أمّا بعـد: لا يجوز تهنئة النّصارى أو غيرهم من الكفّار بأعيادهم لأنّها من خصائص دينهم أو مناهجهم الباطلة، قال الإمام ابن القيم: وأمّا التّهنئة بشعائر الكفر المختصّة به فحرام بالاتفاق، مثل أنْ يهنّئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيدٌ مباركٌ عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إنْ سَلِمَ قائله من الكفر فهو من المُحرَّمات، وهو بمنزلة أنْ يهنّئه بسجوده للصّليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله، وأشدّ مقتًا من التّهنئة بشرب الخمر وقتل النّفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممّن لا قدر للدّين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنّأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرَّض لمقت الله وسخطه… إلخ.

انظر أحكام أهل الذمّة 1/161 فصل في تهنئة أهل الذمّة. فإنْ قال قائل: إنَّ أهل الكتاب يهنّئوننا بأعيادنا فكيف لا نهنّئهم بأعيادهم، معاملةٌ بالمثل وردًّا للتحيّة وإظهاراً لسماحة الإسلام.. إلخ، فالجواب: أنْ يُقال: إن هنّئونا بأعيادنا فلا يجوز أنْ نهنّئهم بأعيادهم لوجود الفارق، فأعيادنا حقٌّ من ديننا الحقّ، بخلاف أعيادهم الباطلة الّتي هي من دينهم الباطل، فإنْ هنّئونا على الحقّ فلن نهنّئهم على الباطل… ثمَّ إنَّ أعيادهم لا تنفكّ عن المعصية والمُنكر وأعظم ذلك تعظيمهم للصّليب، وإشراكهم بالله تعالى، وهل هناك شرك أعظم من دعوتهم لعيسى عليه السّلام بأنّه إله أو ابن إله، تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا، إضافةً إلى ما يقع في احتفالاتهم بأعيادهم من هتكٍ للأعراض واقترافٍ للفواحش وشُربٍ للمُسكرات ولهوٍ ومجون، ممّا هو موجبٌ لسخط الله ومقته، فهل يليق بالمُسلم الموحد بالله ربّ العالمين أنْ يُشارك أو يهنّئ هؤلاء الضالّين بهذه المناسبة”.

“هذه الفتاوي الظلاميّة وضعتك حتمًا في زمرة العُصاة مرتكبي الموبقات لمجرّد كرت معايدة الكترونيّ أو ورقيّ”

لا تقف هذه الفتاوى الظلاميّة الّتي إنْ نجّتك من الكفر، فإنّها وضعتك حتماً في زمرة العصاة مرتكبي الموبقات لمجرّد كرت معايدة الكترونيّ أو ورقيّ أو رسالة على واتساب، بل إنّها تتجاوز متجرّدةً من كلّ قيمة أخلاقيّة، متبنيّةً للنّفاق تحت ما يُعرف في فقه التلوّن ب«المداراة»، فيصرّح صاحبها بأنَّه: “فلا بدَّ من التفريق بين البرّ الّذي هو من أعمال السّلوك الظاهرة، وبين الموالاة والمحبّة الّتي هي من أعمال القلب الباطنة؛ فالمُسلم مُطالَب بالبرّ والإحسان إلى الكفّار المسالمين الّذين لا يعينون علينا أعداءنا، وفي الوقت نفسه يبغضهم في الله؛ لكفرهم به، وتكذيبهم لرسله، من غير أن يحمله ذلك على ظلمهم أو التعدّي على حقوقهم” (انقر هنا)


خلاصة هذا الفكر العفن هي أنّك سوف تبوء بغضب الله وتحرّم عليك الجنة إذا هنّأت صديقك أو جارك أو زميلك بعيد الميلاد المجيد أو بعيد الفصح، وأنَّك يجب على الدّوام أنْ تتذكّر أنّك تبغضه وتكرهه في الله ولا تُحبّه أبداً، دون أنْ تعتدي عليه أو تؤذيه، لأنّه يدفع الجزية –في ما مضى- ولأنّه اليوم تحت حكم القوانين الّتي بالمناسبة تُكرِّس أنماطاً من التمييز على أساس دينيّ يضيق المقام عن الخوض فيها هنا.

سبق وأنْ أصدرَتْ دائرة الإفتاء الأردنيّة والأزهر فتاوى تجيز تهنئة المسيحيّين بأعيادهم


في المقابل، سبق وأن أصدرَتْ دائرة الإفتاء الأردنيّة والأزهر فتاوى تجيز تهنئة المسيحيّين بأعيادهم، ليثور السّؤال، لماذا يختار شرذمة الاستئصاليون ابن القيم ومن سار على فكره المُتطرِّف ولا يختارون هذه الفتاوى المتسامحة؟ والجواب يأتيك من مقارنة مضامين وحجج الفتاوى المتناقضة وتحليلها. إذ سوف تجد بكلِّ أسفٍ أنَّ فتاوى إجازة التهنئة تعتمد على مفردات عاطفيّة بعيدة عن المواطنة الحقّة وحقوق الإنسان، فتجدها تتبنّى عبارات ليسَت ذات محتوى في مقام المحاججة الفقهيّة والدّينيّة ولا حتّى القانونيّة الحقوقيّة.. فتراها تتحدّث عن : «السّلم المجتمعيّ ووأد الفتنة ومعاملة أخواننا في الوطن بالحسنى..»، دون الخوض في الأدلّة الشرعيّة الّتي يسوقها المناوئون وتفنيدها. أما فتاوى عدم إجازة التهنئة، فلدى مؤيّدوها بدل الدّليل والتّأويل 10، فما هو الحل؟
الحل يكمُن بمنتهى البساطة بأنْ تُدرك مؤسّسات التّعليم والمؤسّسات الدّينيّة الرّسميّة أنَّ الجدل العبثيّ المستعر حول هذه القضيّة وغيرها مردّه ليس سوء فهم وبطلان في الاستدلال وجهل.. وما إلى ذلك من عبارات التجهيل الّتي لا تفيد في هذا المقام، بل ما يتسلّح به هؤلاء المتطرّفون هو صحيح الفهم ودقيق التّأويل مسنوداً بآراء موثّقة لأئمة معتبرين عندهم وعند غيرهم وعدد من المشايخ المعاصرين الّذين تصنّفهم المؤسّسات الدّينيّة الرسميّة والقنوات الإعلاميّة المنتشرة بأنَّهم «من رموز الاعتدال الدّينيّ» مثل الشيخ يوسف القرضاوي وابن باز ومشايخ الوهابيّة بنسختيهم المحافظة والتقدّميّة.

هل بإمكان القائمين على دور الإفتاء الرّسميّ في الدّول الإسلاميّة وشيخ الأزهر أن يقولوا أنّني وغيري على صحيح الدّين حينما نقول أنّنا نهنّئ المسيحيّين بعيد الميلاد المجيد والفصح بدافع محبّة صادقة ومودّة عميقة لهم وليس بدافع النّفاق أو ما يسمّيه فقهاء «السرك وجلا جلا؛ بالمداراة» وأنّني لا أبغضهم في الله بل من قلبي أحبّ كلّ من يُعلي منهم مبادئ حقوق الإنسان وقيم التنوّع واحترام الاختلاف؟
لماذا لا تقوم السُّلطات المعنيّة في الدّول الإسلاميّة الّتي تحترف المنع والحجب والقصّ بكلّ أشكاله.. بالتّحذير من كتاب «أحكام أهل الذمّة» وغيره من الكتب الّتي تحضّ على بغض الآخر بل وتضفي على الكراهيّة سمة القداسة والقربى إلى الله، لماذا لا يتمّ تصنيف هذه الكتب بأنّها (تكدّر السّلم الاجتماعيّ وتثير الفتنة وتحضّ على الكراهيّة)؟ لماذا لا تقوم دور الإفتاء والأزهر وهيئة كبار العلماء ورابطة العالم الإسلاميّ بتبنّي موقف صريح يتبرّأ من كلّ ما من شأنه تكريس إقصاء المخالف في الدّين وإعلان بطلان نظريّة وتطبيقات وممارسات «البراء والولاء»، ومراجعة المناهج الدراسيّة وتنقيتها من السّموم الفكريّة الإقصائيّة؟.
تتداعى هذه المؤسّسات والهيئات للتنكيل بكاتب مقال أو شاعر أو رسّام أو صاحب رأي إذا استشعر القائمون عليها نقداً أو انتقاداً لفكرة أو مبدأ دينيّ يعتبره هؤلاء من المُسلّمات، كما أنّهم يثورون ويحتشدون ضدّ كلّ من يتحدّث عن الإسلاموفوبيا في الدّول الّتي ذاقت ويلات ما قام به الإسلاماويون من قتل وذبح وتفجير وهدم لأبراج وسحق لآثار ودهس لمتسوّقين ومحتفلين بالأعياد.. بينما بكلّ جرأة بل ووقاحة تجيز تلك المؤسّسات إعادة طباعة كتب أئمّة الإرهاب الفكريّ فقهاء الدّم والبغض والكراهيّة، ويتمّ اجتزاء نصوصاً منها توضع في المناهج، ليعتلي بعد ذلك كلّه أئمّة تدفع الشّعوب رواتبهم من جيوبها المنابر ليشتموا ويسبّوا ويدعوا على المخالفين في العقيدة والدّين، هل من موقف قريب حقيقيّ وليس لسدّ الذرائع ولا إعمالاً للمدارة والتقيّة؟

  • عضو مجلس الأعيان الأردنيّ سابقًا

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

Skip to content