
السابق قيامة السبت أم قيامة الأحد؟
د. برنارد سابيلا*
هذه السنة ٢٠٢٥، هي الذكرى الـ١٧٠٠ لمجمع نيقية، وسيُحتفل بـ”الفصح الموحد” في القدس في٢٠ نيسان/أبريل. التقاء التقويمين اليولياني والغريغوري صدفة “حسابية”. في الواقع، القانون واحد لجميع الكنائس،: يقع عيد الفصح في أول أحد بعد بدر الربيع بعد ٢١ آذار. الذي يسبب الخلاف اليوم بين الكنائس هو اتباعها تقويمًا مدنيًّا مختلفًا. فالكنائس في الغرب تتبع التقويم الغريغوري (نسبة إلى البابا غريغوريوس الثالث عشر الذي أمر بإصلاح التقويم في سنة ١٥٨٢)، والكنائس في الشرق ظلت تتبع التقويم اليولياني (نسبة إلى الإمبراطور الوثني يوليوس قيصر الذي قرر البدء بالعمل به سنة ٤٦ قبل الميلاد). وبين التقويمين فرق ١٣ يومًا. فإذا جاء يوم ٢١ آذار في التقويم الغريغوري، ينتظر التقويم اليولياني ١٣ يوما حتى يكون فيه ٢١ آذار. ومن هنا الاختلاف الذي قد يكون أسبوعا أو أكثر، وأقصاه خمسة أسابيع. فسبب الاختلاف هو بين تقويمين مدنيين، وليس بين حسابات كنسية. وقد يصدف أن يقع يوم ٢١ آذار بعد بدر الربيع في اليوم نفسه في كلا التقويمين، فيكون العيد في جميع الكنائس معا، كما هو الحال هذه السنة.
الجذور القديمة، مجمع نيقية ٣٢٥
عُقد المجمع المسكوني الأول في نيقية عام ٣٢٥م. كانت أهم قراراته، تحديد قانون الإيمان النيقاوي، فحرم بدعة آريوس، كاهن من الإسكندرية، الذي شكك بألوهية المسيح. ومن بين قراراته الأخرى، قرار بتوحيد تاريخ عيد الفصح. حدد المجمع أن يكون عيد الفصح في الأحد الأول بعد اكتمال القمر الأول الذي يلي اعتدال الربيع، الذي يلي ٢١ آذار/مارس. وهذا يعني أن عيد الفصح يمكن أن يُحتفل به في أقرب وقت في ٢٢ آذار/مارس أو في أقصى وقت في ٢٥ نيسان/أبريل.
الذكرى السنوية ١٧٧٠ – نداء إلى توحيد التاريخ
وفي هذه السنة، كونها الذكرى السنوية ال١٧٠٠ لمجمع نيقية، حيث تقرر تثبيت عيد الفصح، الذي تتبعه جميع الكنائس حتى اليوم، دعا البابا فرنسيس، وكذلك البطريرك المسكوني برتلمواس في القسطنطينية، إلى توحيد تاريخ عيد الفصح في الكنائس الأورثوذكسية التي تتبع التقويم اليولياني والكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية التي تتبع التقويم الغريغوري.
وذلك بتحديد يوم ثابت، مثلا أول أحد من شهر نيسانـ أو غير ذلك … فينهي هذا الاتفاق الجديد الاختلاف في تواريخ عيد الفصح وينسجم مع دعوة مجمع نيقية لتثبيت تاريخ واحد تتبعه جميع الكنائس.
في القدس ١٣ كنيسة تحتفل بعيد القيامة
يحمل عيد الفصح في القدس رمزية عميقة. فالمدينة، موطن لثلاثة عشر كنيسة معترف بها رسميًّا، احتفلت حتى اليوم بعيد الفصح في تاريخين مختلفين، وفقًا للتقويمين اليولياني والغريغوري. ويأتي كلا التاريخين في الربيع عندما تزدان المدينة وضواحيها بالزهور البرية الزاهية مثل الخشخاش الأحمر والنرجس الأصفر، إشارة إلى قول السيد المسيح في إنجيل متى: “اعتبروا بزنابق الحقل كيف تنمو فلا تجهد ولا تغزل.” (متى ٦: ٢٨). والأزهار في البرية وفي المدينة صورة بليغة للقيامة، وللحياة الجديدة التي ينتظرها الناس اليوم في المدينة المقدسة.
عوائد شعبية
يبدأ عيد الفصح في القدس بجو احتفالي حتى قبل بدء الصوم الكبير في الحي المسيحي في البلدة القديمة، فيتنقل الأطفال مرتدين أزياء كرنفالية من باب إلى باب، يطلبون الحلويات والأطعمة الشهية التي تعدها الأمهات والعمات والخالات والجدات. ورغم أن هذه العادة قد اختفت، إلا أن بعض العائلات لا تزال تعد هذه المعجنات الشهية استعدادًا للعيد. خلال فترة الصوم الاربعيني، تمتنع العديد من العائلات عن تناول اللحوم أيام الأربعاء والجمعة، ويقوم المؤمنون بتضحيات مختلفة لها مغزى روحي أو اجتماعي، مثل الامتناع عن تناول الحلويات والسكاكر بانواعها، مشاركة في أجواء التوبة في زمن الصوم، وبالعطاء للفقراء والمحرومين فرح العيد.
تطواف أحد الشعانين
يبدأ الأسبوع المقدس بأحد الشعانين، وذلك بمواكب توحد العائلات والمسيحيين من جميع الطوائف. يحمل الأطفال، وهم يرتدون أجمل ثيابهم، سعف النخيل والزهور. في كنائس القدس المختلفة تقام دورات بهيجة في ساحاتها يشارك فيها الاطفال وعائلاتهم. وفي كنيسة بيت حنينا للاتين، وهي الرعية التي أنتمي إليها، يجتمع المؤمنون من شتى الكنائس للاحتفال سوية بهذا العيد. يحمل الاباء والامهات اطفالهم الصغار لابسين أبهى الثياب، تتماهى مع سعف النخل المزينة بعطر الورود. وتتردد انشودة “هوشعنا في الاعالي مبارك الآتي باسم الرب” وهم يسيرون حول ساحات الكنيسة الخارجية مهللين فرحين. لاحقًا بعد الظهر، تقام الدورة التقليدية او المسيرة التي تنطلق من بيت فاجي، على الطرف الشرقي من جبل الزيتون، وصولا إلى كنيسة القديسة حنة للآباء البيض بعد باب الأسباط. ويرأس هذا الاحتفال بطريرك القدس للاتين، وهو اليوم الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، ويكون هو ومرافقوه أخر من يصل إلى ساحة كنيسة القديسة حنة، وما ان يدخل الساحة ليعطي البركة للمؤمنين والحجاج تهتف الجموع وتأخذ بتحريك سعف النخيل التي حملوها طيلة المسيرة مهللين بترنيمة “هوشعنا.” حفيف النخل اليوم مثل حفيف النخل بالأمس، وجماهير اليوم مثل جماهير الأمس في زمن يسوع، التي حملت السعف وأحاطت بالمسيح في دخوله المظفَّر إلى اورشليم قبل الفي عام في الاحد السابق لصلبه على الجلجلة. ومن الجدير بالذكر بان مسيرة احد الشعانين بادر لأحيائها البطريرك لويجي بارلاسينا بمساعدة مؤمنين علمانيين مقربين، منهم والدي زخريا وصديقه انطون حلاق رحمهما الله، في العام ١٩٣٤. وكانت تلك السنة سنة مقدسة نادى بها البابا بيوس الحادي عشر. كان البطريرك لويجي بارلاسينا بطريركا للاتين في القدس والاراضي المقدسة ما بين ١٩٢٠ والعام ١٩٤٧. ويعرف عن هذا البطريرك نشاطه الدؤوب لاحياء الكنيسة وترميم مبانيها التي دُمِّرَ الكثير منها في الحرب العالمية الاولى، ومنها مبنى الاكليريكية اللاتينية في بيت جالا. وكذلك اشراكه المؤمنين من غير الكهنة والرهبان في نشاطات الكنيسة واعمالها.
هذا العام، تاريخ العيد موحد
هذا العام، سيتبع احتفال “الفصح الموحد” في القدس، وفقاً للتقاليد، ترتيبات الوضع الراهن. وقد أنشأ هذا النظام الأتراك العثمانيون في القرن التاسع عشر، وهو يضمن احترام الحقوق الدينية لمختلف الطوائف المسيحية في الأماكن المقدسة المشتركة. وفي نصوص النظام تعليمات محددة ودقيقة حول التقاسم الزماني والجغرافي بين الكنائس حين تحيي الاحتفالات الفصحية وغيرها جنبًا إلى جنب في نفس المكان المقدس. خلال خدمة الفصح الموحد، يحتفل الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن والسران والأقباط والإثيوبيون معاً في كنيسة القيامة، وفقاً للإرشادات والقواعد التي يحددها الوضع الراهن الموروث منذ زمن العثمانيين. ومن الجدير بالذكر ان صلاح الدين الايوبي كان قد عهد في القرن الثاني عشر، بمفتاح كنيسة القيامة، إلى عائلتي جودة الحسيني ونسيبة المقدسيتيين وهما من العائلات المسلمة المعروفة في فلسطين. ويقوم السيد اديب جودة الحسيني بمهمة فتح الكنيسة صباحا واغلاقها ليلا. بينما تحتفظ عائلة نسيبة بالمفتاح في عهدتها.
طقوس خميس الأسرار
يُحيي خميس الأسرار، خميس الغسل كما يعرفه المسيحيون الفلسطينيون، ذكرى تواضع السيد المسيح لما غسل أقدام تلاميذه. فالسيد الحقيقي لا ينأى عن غسل أرجل مريديه. ليكن كبيركم خادما لكم. هكذا قال السيد المسيح. في القدس، يترأس بطريرك الروم الأرثوذكس احتفال غسل الارجل في ساحة القيامة، محاطاً بالرهبان والحجاج. ويعتبر هذا الاحتفال من المشاهد المؤثرة في الاسبوع المقدس حيث يجتمع المئات من المسيحيين المحليين والحجاج القادمين من بلدان عدة بمواكبة البطريرك وهو يقوم بغسل ارجل الاثني عشر الذين اختارهم بينما تتلى الصلوات وتعلو الترانيم البيزنطية. يحتفل الكاثوليك والارمن والسريان والاقباط والبروتستانت وغيرهم في كنائسهم المنتشرة في ارجاء المدينة المقدسة بقداس يحيي ذكرى العشاء الأخير للمسيح وتلاميذه الاثني عشر ويتم طقس غسل الأرجل، والكنائس مكتظة بالمؤمنين والزوار الذين يقصدون المدينة خصيصا في الاسبوع المقدس.
الحجاج من مختلف أنحاء العالم
تلمس الروح المسكونية بصورة خاصة في أسبوع الآلام في القدس، حيث يختلط الحجاج من مختلف الدول مع السكان المحليين بغض النظر عن كنائسهم. في الزمن الجميل كان مئات الحجاج يأتون من لبنان ومصر وقبرص وكذلك الاقرباء من العائلات من عمان ودمشق وغيرها من مدن الجوار. درج العديد من المسيحيين المقدسيين على استضافة الحجاج القبارصة والاقباط المصريين في منازلهم، ما يعزز الوحدة بين المؤمنين خلال هذا الزمن المقدس. وبالاضافة إلى الوجه الروحي لعيد الفصح، يحمل الحجاج من البلدان المجاورة معهم المشروبات والمنتوجات التي تتميز بها بلدانهم فيصبح موسم العيد موسما لتبادل الهدايا وتشجيع التجارة. وما قبل الثورة البولشفية في روسيا في العام ١٩١٧ كان الاف الحجاج الروس يأتون سيرا على الاقدام في رحلة تستغرق اسابيع واشهر للتبرك بالاماكن المقدسة ولحضور احتفالات اسبوع الفصح المجيد. ومن الجدير بالذكر ان العراقيين الكلدانيين من القوش وغيرها من القرى والبلدات المسيحية القريبة من الموصل في شمال العراق كانوا كذلك يحجون إلى القدس والاماكن المقدسة في فلسطين سيرا على الاقدام قبل ان تظهر وسائل المواصلات الحديثة. بالفعل كان ايمانهم عظيما وما زال. وكدليل لحجهم للقدس كانوا يقومون بوشم صليب صغير على اليد اليمنى وكانت هذه العادة معروفة بين الحجاج المسيحيين من كل انحاء الشرق الاوسط.
عودة إلى العوائد الشعبية
طوال الأسبوع المقدس، تعد العائلات المقدسية والفلسطينية “الكعك والمعمول”، وهي معجنات محلية من الدقيق او السميد محشوة بالمكسرات والتمر. ترمز دائرية الكعك المحشو بالتمر الى الخلود والحياة الجديدة بالمسيح القائم من الموت. وكذلك المعمول المحشو بالجوز او بالفستق الحلبي وهو مدبب هرمي الشكل والذي يرمز ايضا الى العطاء والبركة. وحين يتزاور الاهل للمعايدة يقدم الكعك والمعمول المحلى بالسكر الابيض المطحون مع القهوة العربية. ويقوم الأطفال بتلوين البيض المسلوق بـألوان زاهية وبخاصة بالالوان الطبيعية مثل البصل او خليط من الاعشاب وكذلك بالنقوش التقليدية. وفي الزمن الجميل كان شبان حارة النصارى، مسلمين ومسيحيين، يتبارون بتطقيش البيض المسلوق بين بعضهم البعض. وكان المتبارون يقفون مقابل بعضهم البعض وبيدهم بيضة مسلوقة ويبدأون بضرب اطراف البيضة بعضها ببعض. وايهم يمتلك البيضة التي تبقى سليمة يعتبر الفائز. وكانت المخابز واصحابها من عائلتي خضر والكرد وهما من العائلات المسلمة المعروفة بين المقدسيين تشارك في بهجة الاحتفالات الفصحية، حيث كانت تعد خبزاً خاصاً مستطيلا مزيناً في وسطه بالبيض الملون اكراما لجيرانهم المسيحيين. وتبدأ أكشاك بيع الشمع في الانتشار في ازقة واحياء حارة النصارى قرب كنيسة القيامة، منذ خميس الغسل، استعداداً لطقس النور المقدس في “سبت النور.”
يوم الجمعة العظيمة
يُعد يوم الجمعة العظيمة أكثر أيام التقويم المسيحي حزناً، حيث يستمع الجميع للترانيم الحزينة التي تذكر بالام المسيح وهو في دربه إلى الجلجلة ولوعة وحزن والدته العذراء مريم عليه. وامتازت فيروز المغنية اللبنانية المشهورة باناشيدها وتراتيلها ليوم الجمعة الحزينة. وتتردد الترانيم الفيروزية في زوايا البيوت والحارات المقدسية منذ فجر الجمعة الحزينة ما يضفي على الحزن المقدسي بعدا خاصا بنكهة لبنانية. وعلى مثال درب المسيح وهو يحمل صليبه، يترأس حارس الاراضي المقدسة الفرنسيسكاني، وهو اليوم الاب فرانسسكو باتون، دورة درب الصليب، ويتبعه المؤمنون من مختلف الجنسيات والطوائف، وهم يرددون الترانيم بلغات متعددة، بما في ذلك العربية والإيطالية واليونانية والألمانية والفرنسية. ويقوم كاهن رعية اللاتين في القدس، وهو اليوم ابونا امجد صبارة، وهو ابن عائلة مقدسية مشهود لها من حارة النصارى بترأس دورة درب الصليب لابناء وبنات رعيته من اللاتين والمسيحيين الذين يفدون من رام الله وبيت لحم وغيرها من المناطق والبلدات العربية. ويتناوب المحليون على حمل الصليب المقدس حتى وصوله إلى كنيسة القيامة. ومن الجميل انه وبعد انتهاء الدورة تقوم نساء القدس وصباياها بحمل الصليب عبر شوارع وازقة القدس الى مقره في دير المخلص الفرنسيسكاني. ومن المشاهد المميزة في دورة درب الصليب ان النساء المحليات والقادمات من الدول المجاورة وبخاصة من الاردن ولبنان وسوريا ومصر يركعن على اقدامهن ويشاركن في دورة درب الالام، وبعضهن يَسِرن حافيات، وفاءًا لنذور نذروها لشفاء عزيز لهم ولطلبات أخرى لأفراد الأسرة أو الأصدقاء المحتاجين. تقيم كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك بالقرب من باب الخليل احتفالا جنائزيا مؤثرا بعد ظهر الجمعة العظيمة، حيث تُعرض أيقونة للمسيح المصلوب، محاطة بطبقات من الزهور الزاهية، بينما تردد الجوقة المقدسية للروم الكاثوليك الترانيم العربية التقليدية الحزينة والتي تروي قصة صلب السيد المسيح والالام التي تحملها فداءً للبشرية وكفارة عن خطاياهم، مثل:
وتعيد هذه الترانيم المؤثرة صدى ما رددته منذ القدم الاجيال المسيحية المؤمنة من فلسطين ولبنان والاردن وسوريا وغيرها من بلدان المنطقة من حزن والم على صلب المسيح وموته.
وفي عشية الجمعة العظيمة يقيم الارثوذكس الفلسطينيون دورة تذكارية في ساحة كنيسة القيامة حيث يجتمعون عائلات واصدقاء وينضم اليهم المسيحيون من سائر الكنائس لتكريم ذكرى صلب السيد. ويقوم المشتركون في الدورة الجنائزية حول ساحة كنيسة القيامة بترديد المرثية التالية وغيرها من المراثي في ذكرى صلب السيد المسيح:
سبت النور وفيض النور
وذروة عيد الفصح في “سبت النور”، عندما يدخل بطريرك القدس للروم الأرثوذكس، وهو اليوم البطريرك ثيوفيلوس الثالث، إلى ضريح القبر المقدس في كنيسة القيامة لاستحضار النور المقدس. وبخشوع شديد يقوم البطريرك بحسب تقليد قديم جدا بتلاوة الصلاة التالية يطلب فيها نزول النور المقدس بايمان وتضرع:
“يا ربنا وإلهنا، يا من أنرت العالم بنور قيامتك المجيدة، امنحنا أن ننال نورك المقدس، ونشهد لعظمتك أمام جميع الأمم. كما قبلت تضرعاتنا في الأعوام الماضية، تقبل صلواتنا اليوم وامنحنا نعمة النور غير المخلوق، نور قيامتك المقدسة.”
وعند “يفيض النور” يقوم البطريرك باضرام شمعة من النور المقدس يشارك بها من معه في القبر المقدس، ثم يمرَّرُ النور عبر فوهات بناء القبر المقدس لحشود المؤمنين الصائمين المنتظرين بفارغ الصبر والذين لم تَرَ اعينهم النوم طوال الليل وما ان يتلقوا النور فإنهم يمررونه بسرعة على جباهم تبركا وتيمنا. وبسرعة البرق يمرر النور من شمعة إلى أخرى، فتمتلئ ساحة القبة الكبيرة لكنيسة القبر بتوهج شديد وبدخان الشمع المحترق. ثم يحمل المؤمنون النور المقدس بفرح عبر أزقة الحي المسيحي الضيقة، بينما يصعد الشبان المسيحيون على أكتاف بعضهم البعض هاتفين بشعارات النصر والفرح. وفي زفة سبت النور التي تعبر الحارات والازقة الضيقة في شوارع القدس القديمة يهتف الشباب بالاهازيج مثل:
دية دية دية شبية مسيحية
دية دية دية كرمال البتولية
اول ما بدينا عالعدرا صلينا
يا عدرا يا ام النور بِإِيدي شمع وبخور
يا عدرا عليك السلام من مسيحية واسلام
من الشارع نادينا وعالعدرا صلينا
والشمع بايدينا والنور بايدينا
من القيامة جينا والنور بايدينا
المسيح اليوم قام بالحقيقة حقا قام
وعيدنا عيد سيدنا وسيدنا يسوع المسيح
هذه العادة عادتنا وما منغَيِّر عادتنا
على مار جريس والخضر صلينا
واحنا النصارى والشمع بايدينا
شع النور وعيدنا عيدنا مع سيدنا
سيدنا عيسى المسيح ملعون اللي ما بيصيح
وبينما تنطلق زفة الشباب بفرح عارم وبحماس زائد تعزف فرق الكشافة الفلسطينية موسيقى القرب البهجة، وعزف القرب متوارث عن الفرقة العسكرية الاسكتلندية والتي خدمت في حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين. ثم يحمل الحجاج النور المقدس إلى مجتمعاتهم ودولهم، رمزاً لنور القيامة الذي ينتشر في جميع أنحاء العالم. وقد أكد بطريرك القدس ثيوفيلوس الثالث أن النور المقدس يمثل استمرارية الإيمان المسيحي، موحداً المسيحيين من جميع الطوائف حتى في أصعب الأوقات.
الدعوة إلى التوحيد. الأفق قريب وبعيد
اليوم، أصبحت الدعوة إلى الاحتفال الموحد بعيد الفصح، التي تعكس قرارات مجمع نيقية، أقوى من أي وقت مضى. قال المطران وليم شوملي، النائب البطريركي للاتين في القدس، عن رغبة الكاثوليك في الاحتفال بعيد الفصح في تاريخ ثابت مع الكنيسة الأرثوذكسية. ودعوة المطران ويليام الشوملي، وهو ابن عائلة من بيت ساحور الى الشرق من بيت لحم يشهد لها بعلمها وادبها، تعكس رغبة المسيحيين من كافة الطوائف والذين ينادون دوما بضرورة توحيد الاعياد بين المسيحيين انعكاسا لوحدتهم بالمسيح القائم من الموت. ويرى المسيحيون في الاراضي المقدسة دعوة البابا فرنسيس لتوحيد تاريخ عيد الفصح تأييدًا لتطلعاتهم وتطلعات المؤمنين في كافة انحاء العالم. لكن، رغم وجود مناقشات بين رؤساء الكنائس للاحتفال بالذكرى الـ١٧٠٠ لمجمع نيقية الذي قرر توحيد تاريخ عيد الفصح، ورغم وقوع العيد في هذا العام معًا، إلا أنه ليس هناك خطط عملية لتحقيق هذه الأمنية، وفقاً للمطران شوملي.
واقع الناس، واقع حرب وألم وموت، وواقع أمل وقيامة
ولا بد من التنويه بأن الكنيسة كانت دوما تشعر بالم خاص في ظل الاوضاع الصعبة التي يعيشها شعبنا منذ ما يزيد على المائة عام. ولا ابلغ من كلمات البطريرك ميشيل صباح، بطريرك اللاتين السابق، في هذا الشأن إذ يقول في احدى رسائله بمناسبة عيد الفصح: “نصلي وصلاتنا جامعة لجميع سكّان أرضنا المقدسة هذه حتى يدرك الجميع في أرض الموت هذه التي نعيش فيها أن الإرسال إلى الموت والقتل ليس الطريق السليم لتوفير الحياة أو الحقوق المشروعة أو الأمن. أرض مقدّسة، أصبحت منذ عشرات السنين بيئة موت طبيعية لازمتنا ودخلت في رتابة حياتنا. أصبحت صليبا دائما: دماء وكراهية وأسرى وقتلى وبيوت مهدَّمة واحتلال وانعدام أمن مستمرّ. هو مأزق للناس، لقادتنا السياسيين، تعوّدوا وتعوّدنا معهم على الموت، فهو لهم وضع طبيعي يظنّون أنّه من واجبهم أن يديروه فقط من غير أن يصلوا يومًا إلى الحياة. وما زلنا نقول: لن ينال أحد أمنه بانعدام الأمن لدى غيره. ولذلك لا بدّ من سلوك طرق جديدة.” ويخاطب القادة: ” أنتم القيادات العسكرية، والمخطّطون وصنّاع الحرب والمفكّرون فيها ، يجب أن تعيدوا النظر في رسالتكم وفي رسالة هذه الأرض” متحديا اياهم ان يعيدوا النظر في ما ذهبوا اليه في تركيزهم على الحرب وداعيا إلى التفكر في القيامة ورمزها الذي يشدد على الحياة انتصارا على الموت والدمار.
في القدس، تذكّر تحية عيد الفصح “المسيح قام! حقاً قام!” بالوحدة المسيحية، حيث تعزز هذه التحية بلغات مختلفة الإيمان نفسه بالرب القائم. وسط استمرار الحرب وهشاشة الوضع، لا يُسمح لمسيحيي بيت لحم وغيرهم من الضفة الغربية وقطاع غزة بالمشاركة في احتفالات عيد الفصح في القدس. تمنع الحواجز ونقص التصاريح من السلطات الإسرائيلية العديد من المسيحيين من الحضور والمشاركة في طقوس الاسبوع المقدس في مدينة القدس. وعلاوة على هذا فإن تشديد السلطات الاسرائيلية في عدم السماح الا لعدد محدود من المسيحيين والحجاج من المشاركة في احتفالات سبت النور في كنيسة القيامة يعطي شعورا بانتقاص حقوق العبادة الاساسية للمؤمنين من المسيحيين.
وفي غزة اليوم، أي عيد؟
في غزة، يجتمع المسيحيون في كنيسة العائلة المقدسة، مع الأب غبريال رومانيللي، الكاهن الأرجنتيني، للاحتفال بعيد الفصح. وكذلك يجتمعون في كنيسة القديس برفيريوس الارثوذكسية ويترأس الاحتفالات المطران الكسيوس من جمعية القبر المقدس والذي رفض ان يترك غزة عند اندلاع الحرب رغم دعوات عدة تلقاها وكان جوابه دوما “افضل البقاء مع شعبي.” طوال حرب غزة، تلقى الأب رومانيللي اتصالات ليلية من البابا فرنسيس للاطمئنان على رعيته، خاصة الأطفال والمرضى وكبار السن. حتى عندما كان البابا في المستشفى، اتصل بالأب رومانيللي للاستفسار عن أحوال الرعية التي لجأت إلى مجمَّع الكنيسة لتحتمي من اهوال الحرب المدمرة. وقد عمل الأب رومانيللي، بمساعدة الأب يوسف أسعد، من مصر، وكاهن ثالث، بلا كلل لدعم ما تبقى من المجتمع المسيحي في غزة، والذي يتراوح عدده الآن بين ٥٠٠ و٧٠٠مؤمن، بعد أن كان حوالي ٣٠٠٠ قبل عقدين من الزمن. ورغم الدمار والمعاناة، يجسد هؤلاء الكهنة، والاتصالات المستمرة للبابا فرنسيس، روح عيد الفصح – رسالة نور وأمل وقيامة في أحلك الأوقات. إن مجتمعات غزة المسيحية وفي جميع أنحاء الأرض المقدسة، بصمودها وإيمانها، تجسد الرسالة الخالدة للقيامة: أنه رغم الحرب واليأس، سيكون هناك نور. وهذا هو رجاء الفصح الأبدي.
المسيح قام! حقا قام!
(شكر خاص لغبطة البطريرك ميشيل صباح الذي قرأ النص الاصلي واقترح تعديلات)
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!