Skip to content

عيدٌ وحربٌ في أرض الميلاد

رابط المقال: https://milhilard.org/rvr1
تاريخ النشر: ديسمبر 23, 2024 8:26 م
IMG-20241223-WA0045
رابط المقال: https://milhilard.org/rvr1

بقلم: المحامي بطرس منصور- الناصرة

عيدٌ، بأيِّ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟

يُداهمنا العيد مرّةً أخرى والأحوال مضطربة في شرقنا الحبيب.

العيد هو وقتٌ لذكرى هامّة في إيماننا- وفي حالتنا الآن هي لتجسّد الله على أرضنا وولادته كطفلٍ في بيت لحم، وهذا سببٌ لفرحٍ وشُكرٍ وصلواتٍ للمسيحيّين إذ هو بالنّسبة لهم تجسُّد الله على أرض الشّقاء لكي يُخلِّص البشر.

 لكنّ عيد الميلاد بالذّات يتّصف بالبهجة والرّونق فترتفع الزّينة البرّاقة على البيوت والشّوارع والمحلّات التّجاريّة وتتمّ “مراسيم” إضاءة للشّجرة ويجول بابا نويل (سانتا كلوز) وتقام كونسيرتات ورسيتالات ومسرحيّات إضافةً طبعًا لأسواق الميلاد (الكريسماس ماركت). وملفت للنّظر أنَّ أغلب ما ذكرته من فعاليّات هو بكلماتٍ أجنبيّةٍ تمّ تعريبُها ليُشير لاستيرادها من الغرب، ولا ضير برأيي في ذلك. لقد أصبح العيد في بلادٍ كثيرةٍ بمثابة عيدٍ شعبيٍّ للجميع ولا يقتصر على المسيحيّين. فهو سبب فرحٍ لآخرين من غير المسيحيّين – لبعضهم ممَّن يُقدرّون المسيح ويعتبرون أنَّ مجيئه للأرض هو خيرٌ وبركةٌ للبشريّة والبعض الآخر لأنَّ مظاهره هي مظاهر فرحٍ شموليّةٍ جميلةٍ لكلِّ فئات الشّعب.

وللحقّ، لا بدَّ من الإشارة أيضًا أنَّ احتفالات عيد الميلاد اتّخذت أشكالًا انحرفَتْ في بعض الأحيان عن معنى العيد الحقيقيّ بالتأثير الاستهلاكيّ لمجتمعاتنا ولنشاط التجّار وطموحهم اللّذان التقيا مع رغبة النّاس استغلال المناسبة فتأكل بإفراطٍ وتشرب بنهَمٍ وتُغالي في السفر فوق طاقتهم وتُسرف في تقديم الهدايا.

من الجّهة الثّانية- يأتي هذا العيد مرّةً أُخرى في وقتٍ اتّسمَتْ فيه ظروف شرقنا بالاضطراب والتّقلقل والألم كالخنجر في القلوب، وهو أمرٌ مستمرٌّ منذ سنةٍ ونيف. حيثُ يستمرّ القتل والتّشريد والخطف والتّهجير والتّعذيب وهدم البيوت لفئاتٍ من شعوب المنطقة -مرّةً للفلسطينيّين ومرّةً للإسرائيليّين ومرّةً للّبنانيّين ومرّةً ثانيةً وثالثةً للفلسطينيّين… ومن المُحزن أنَّ هذا الواقع المؤلم أصبح مألوفًا، ولم يعدْ يهزّ كياننا بقوّة. فصرنا نحمي أنفسنا بواسطة التّغاضي والنّسيان. وبينما هدأتِ الجبهة اللّبنانيّة (لحين؟) فإنَّ قطاع غزّة وبعد دمارٍ واسعٍ يُقدّم إشاراتٍ لهدوءٍ مُحتملٍ ورُبّما صفقةٌ قريبةٌ ويتوجَّب أن يعقبها ترميمٌ وإصلاحٌ واسعَين. لكنَّ جبهةً جديدةً تطوّرَتْ في محيطنا بالأيّام الأخيرة هي الجبهة السّوريّة الدّاخليّة والمخفي في مستقبلها ما زال أعظم.

وتتساءلُ في سرِّكَ: هل هذه الأرض ملعونة؟  فما أن تهدأ جبهة وإذ بأُخرى تشتعل مكانها. يا ربُّ ارحمنا!.

فكيف إذًا يتلامس العيد بمظاهره وبرامجه مع حالة الحرب؟ كيف لا تفرح وربُّ المجد أتى لعالمنا ليضيء في نوره؟ ولكن كيفَ تفرحُ وتُزيّنُ بيتكَ وتحتفلُ وابنُ جلدتكَ حزينٌ وابنُ شعبكَ منكوبٌ وأخوكَ في الإنسانيّة متألِّمٌ؟

كيف توازن بين هذا وذاك؟

ألن يكون الاحتفال إشارةً لقلّة الحساسيّة بالذّات ويسوع نفسه كان أكثر النّاس حساسيّةً لظروف النّاس؟ هل بإمكانك أن تفرض على الآخرين ألّا ُيعيّدوا؟ أليس من المفروض أن ينبع الأمر من قلب الإنسان وتعاطفه فيمتنع عن مظاهر الاحتفال؟ هل أمتنع عن الاحتفال اليوم لوضعٍ سياسيٍّ وجبهة حربٍ مُعيّنةٍ، ولكن أحتفل غدًا لأنَّ حرب الغد أبعد عن قلبي ومواقفي السّياسيّة لا تناسبها؟ أين الحدود لذلك وما المعيار؟

لن نقدِّم إجاباتٍ صريحةً للمعضلة، لكن نؤمن بالحرّيّة بالتّصرّف- من جهةٍ دون إكراهٍ وفرضٍ على الآخر ومن جهة ثانيةٍ بحساسيّةٍ للآخرين كما يناسب طفل العيد نفسه.

إنَّ هذه الأسئلة العمليّة تدخل في جذور هويّتنا كمسيحيّين فلسطينيّين- في كلّ أماكن تواجدنا. لقد تألَّمنا وأصِبنا بدرجاتٍ متفاوتةٍ من جرّاء الحرب المستمرّة ولا نرى أنَّ الأفق ينبئ بمستقبلٍ جميلٍ ومزهر.  ولكنَّنا كمسيحيّين نؤمن بسيادة الله وبأنَّ أيّ أمر يحدث بسماحه، ونؤمن بصلاحه وأنَّه سيتدخّل في الوقت المناسب. إنَّ لنا في قصّة الميلاد عزاء- فلقد اغتاظ هيرودس من ميلاد طفلٍ هو بالحقيقة ملكٌ، فأراد بالخباثة قتله. ولكي يقوم بذلك، بطش بأطفال بيت لحم عساه يقتل الطفل الّذي اعتبره غريمًا له. لكنَّ الله رتَّب المنفذ، فأنقذ الطفل يسوع الّذي أصبح لاجئًا في مصر. ولاحقًا ليستوطن في بلده – بلدنا الناصرة وفيها نما بالحكمة والقامة والنّعمة أمام الله والنّاس. وبعد الناصرة سار يسوع كما خطّط للصّليب. ومن ظنَّ أنَّ الصّليب هو نهاية الحكاية، وجد القبر فارغًا وجاءتِ القيامة المجيدة.

ميلادٌ مجيدٌ ستعقبه قيامةٌ مجيدةٌ لا محالة.

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

Skip to content