Skip to content
Skip to content

عائلتنا كان لها منزل في المصرارة ثم جاءت النّكبة عام 1948

عدد القراءات: 620
تاريخ النشر: مايو 16, 2025 7:43 ص
Screenshot 2025-05-15 235300

بقلم داود كُتّاب

نُشر بالإنجليزيّة في مجلّة ذا نيو ريبابليك

فرّ والدي، جورج كُتّاب، ووالدته، تاتا نزيرا فتالة، من حيّهما في المصرارة، فيما يُعرف الآن بالقدس الغربية، في مايو/أيار 1948، بعد أن قُتل إلياس، زوج أختهما هدى، برصاص قنّاصة صهاينة أمام عينيها وأطفالها. ذهبا إلى مدينة الزرقاء الأردنيّة، ولاحقًا تبعهما عمّي، قسطندي. كانَتْ كلمات عمو قسطندي، الّتي اشتهرت في عائلتنا وتردَّدَتْ في منازلنا لسنوات بعد وصوله إلى الزرقاء، ترسُم البسمة على وجوهنا. لوّح بالمفتاح المعدنيّ للمنزل القديم، وقال: “أغلقْتُ المنزل بطقتين”، مؤكِّدًا لوالدته أنَّ منزلها في القدس آمن. لكنّه لم يكن كذلك.

مع أنّنا لسنا متأكِّدين من كيفيّة التّعامل مع منزل أجدادنا، إلّا أنّنا اكتشفنا لاحقًا أنَّه كان مُتاحًا لليهود اليمنيّين. لم يكُنْ فرار والدي وعائلته مُختلفًا عن فرار 750 ألف فلسطينيّ أُجبروا على اللّجوء فيما نُسمّيه اليوم “النّكبة”. يُحيي الفلسطينيّون الّذين فقدوا أراضيهم ومنازلهم في ذلك الوقت ذكرى الخامس عشر من مايو من كلّ عام.

العروسان جورج كتاب وفروسينا نشيوات- من كتاب جورج كُتّاب ” عائلتي وفلسطين”

لقد جسّد تصرَُف عمّي البسيط وكلماته المُفعمة بالأمل جوهر مأساة اللّاجئين الفلسطينيّين: شعب أُجبر على المنفى لكنّه يرفض التّنازل عن حقّه في العودة. على مدى أكثر من سبعة عقود، توارث هذا الشّوق جيلًا بعد جيل. لكنّه ليسَ مُجرّد حنين أو قصيدة؛ إنَّه يتعلّق بالكرامة والعدالة ومُطالبة شعب بعدم محو تاريخه.

وعلى عكس الاعتقاد السّائد، لم يكُنْ حقُّ العودة يومًا هو العائق الأكبر في مختلف المحادثات الفلسطينيّة الإسرائيليّة، سواء في أوسلو أو كامب ديفيد 2 أو طابا. من خلال عملي الصّحفيّ الشّخصيّ، ومن خلال بيانات استطلاعات رأي موثوقة، يتّضح أنّه إذا ما أُتيحَتِ الفرصة، فإنَّ الغالبيّة العُظمى من اللّاجئين الفلسطينيّين ستُفضِّلُ البقاء حيث هم، أو الانتقال إلى بلدٍ ثالثٍ، أو العودة إلى دولة فلسطينيّة مُستقبليّة. أقلّية ضئيلة فقط تُصرُّ على العودة إلى ما يُعرف الآن بإسرائيل. لكنَّ الإصرار على حقّ العودة يبقى شبه عالميّ لأنَّه يُجسِّدُ اعترافًا أخلاقيًّا وقانونيًّا بالظلم الّذي عانوه.

ومع ذلك، وبصفتها رئيسة لجنة التّوفيق التّابعة للأُمم المُتّحدة بشأن فلسطين، الكيان الّذي أُنشئ عام ١٩٤٨ بموجب قرار الأمم المُتّحدة رقم ١٩٤ للتوسُّط في الصراع العربيّ الإسرائيليّ، أدركَتِ الولايات المتّحدة منذ البداية أنَّ إسرائيل لن تسمح أبدًا بعودة اللّاجئين. وبدلًا من ذلك، بحث الأمريكيّون عن بدائل، لا سيّما من خلال الإدماج المحلّيّ للفلسطينيّين في الدول المُضيفة. وقد أدّى ذلك إلى ولادة وكالة الأُمم المُتّحدة لإغاثة وتشغيل اللّاجئين الفلسطينيّين (الأونروا)، الّتي شُكِّلَتْ على غرار سلطة وادي تينيسي، بهدف توفير فرص العمل وخدمات الدّعم للّاجئين.

الأونروا، الّتي صُمِّمَتْ كوكالة مؤقّتة من قِبَل الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحدة، لم تُمنَحْ قط ميزانيّة مُحدّدة من الأمم المتحدة، واعتمدت بشكلٍ كبير على تمويل المانحين الطوعيّين. كان اسمها مُضمّنًا في خطيئتها الأصليّة. يُشير مصطلح “الأشغال” في الأونروا إلى مشاريع كثيفة العمالة تهدف إلى دمج الفلسطينيّين اقتصاديًّا في الدّول المُضيفة، ممّا يُحوّل التّركيز فعليًّا عن العودة الّتي يضمنها القرار 194 إلى إعادة التّوطين.

إسرائيل، الّتي قُبلَتْ في الأمم المُتّحدة بموجب القرار 273 بشرط التزامها بالقرار 194، تنصَّلَتْ لعقود من مسؤوليّتها. وبدلًا من ذلك، تركَتْ عبء دعم أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطينيّ مُسجَّل للأونروا، مع استمرارها في تقويض الوكالة. بلغ هذا الوضع ذروته في عام 2018 عندما خفضت إدارة ترامب الأولى، بتأثير من الضغط الإسرائيليّ، 30% من تمويل الوكالة.

على الرّغم من ذلك، ظلَّتِ الأونروا شريان الحياة الأساسيّ. فقد وظّفت اللّاجئين الفلسطينيّين، وأدارت المدارس والعيادات، ووفَّرَتِ الأمل. في أماكن مثل غزّة والضفّة الغربيّة، لم يكُنْ هذا القرار مُجرّد ارتياح؛ بل كان رمزًا لاعتراف المُجتمع الدّوليّ بمحنة الشّعب. ولهذا السّبب سعت إسرائيل طويلًا إلى تفكيكها – لأنّها تُجسِّدُ رواية اللّاجئين الفلسطينيّين.

لكن تفكيك الأونروا وإنكار هذه الرّواية لن يُنهي قضيّة اللّاجئين. بل على العكس، يضمن بقاء الجرح مفتوحًا. أصبحَتْ مُخيّمات اللّاجئين، الّتي تُعاني من نقصٍ مُزمن في الموارد وقوّة رمزيّة هائلة، مراكز للمُقاومة. وجدَتْ حركات مثل حماس أرضًا خصبة هناك، ليس بسبب الأيديولوجيّة، بل بسبب آلام النزوح الّتي لم تُعالج.

مع ذلك، هناك طريق للمضي قدمًا. يبدأ هذا الطريق بالصّدق. يجب على إسرائيل أن تتحمَّل المسؤوليّة الأخلاقيّة والتاريخيّة عن مشكلة اللّاجئين. بدون هذا الاعتراف، لن يكتسب أي حلّ زخمًا بين الفلسطينيّين. الاعتراف لا يعني العودة الفعليّة للملايين إلى المدن والقرى الإسرائيليّة، ولكنّه يعني الاعتراف بارتكاب خطأ.

أظهر استطلاع رأي أجراه خليل الشقاقي، الخبير الفلسطينيّ المرموق، عام ٢٠٠٣، أنَّ أقل من ١٠٪ من اللّاجئين يرغبون في العودة إلى ديارهم الأصليّة في إسرائيل. ما يريده معظمهم هو الكرامة، والاختيار، وتسوية عادلة. ولهذا السبب، تستحقُّ مُبادرات مثل عمليّة أوتاوا لعام ١٩٩٩، الّتي قادها باحثون كنديّون ودبلوماسيّون سابقون، إعادة النّظر فيها. فمقترحهم يرتكز على الواقع السّياسيّ والكرامة الإنسانيّة.

يقترح إطار عمل أوتاوا حلًّا من خطوتين: أوّلًا، الحصول على موافقة اللّاجئين على عمليّة السّلام؛ وثانيًا، تقديم أربعة خيارات للإقامة الدّائمة: البقاء في البلد المُضيف الحالي، أو الانتقال إلى بلد ثالث، أو الانتقال إلى الدولة الفلسطينيّة الجديدة، أو العودة إلى إسرائيل لعدد محدود. وستُرافق هذه الخيارات تعويضات ومعونات لإعادة التّوطين. وفي أعقاب الاحتلال الإسرائيليّ لبقيّة فلسطين ونقل اليهود الإسرائيليّين إلى مستوطنات بُنيت بشكل غير قانونيّ في الضفّة الغربيّة، انتزع الفلسطينيّون قرارات مماثلة تضمن حقّ النّازحين الفلسطينيّين في العودة إلى ديارهم فيما سيصبح دولة فلسطين.

هذا النهج، الّذي يوازن بين حقَّ الاختيار والجدوى السّياسيّة، يُتيح سبيلًا لطيّ صفحة أحّد أكثر فصول الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ إيلامًا. لكن الأمر يعتمد كليًّا على الشجاعة السّياسيّة. فإلى أنْ يُصبح القادة الإسرائيليّون مُستعدّون للاعتراف بدورهم في النّكبة والسّماح بدولة فلسطينيّة حقيقيّة ضمن حدود عام ١٩٦٧، لن تختفي مُشكلة اللّاجئين. ستبقى حيّة في الذكريات، وفي المفاتيح، وفي الوعود الّتي لم تُوفَّ بها.

عاد والدي، بعد زواجه من والدتي، الأردنيّة الفخورة من مدينة السلط، إلى القدس الشرقيّة. ولكن بعد احتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة عام ١٩٦٧، ومع عدم وجود مؤسَّسات تعليم عالٍ فلسطينيّة آنذاك، تقبّل فكرة والدتي بالهجرة إلى نيوجيرسي، حيث كانت تعيش شقيقتها. بعد دراستي وتخرّجي في الولايات المتّحدة، عدتُ إلى القدس، ومنذ ذلك الحين أتنقَّل بين القدس وعمّان، أعمل في الصّحافة.

ننقل قصص عائلاتنا ليس للتأمُّل في الماضي، بل لبناء مُستقبل أفضل. ويبدأ ذلك بالحقيقة والمسؤوليّة والشجاعة لتصوُّر السّلام المُتجذِّر في العدالة.

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment