السابق افتتاح “دار المجوس” في بيت لحم
رابط المقال: https://milhilard.org/up4y
تاريخ النشر: يونيو 11, 2022 8:34 ص
رابط المقال: https://milhilard.org/up4y
بقلم: الصحفي داود كُتاب
فيما يلي نص مقالة ناشر ورئيس تحرير موقع “ملح الارض” داود كتّاب في كتاب “نحو ذهن متجدد” – مساهمات فكرية انجيلية في السياق الفلسطيني
الملخص
في الورقة المقدمة للكتاب حاولت أن ألخص تجربتي الإعلامية في فلسطين والأردن خلال العقود الخمس الماضية وتجربتي كأمين سر المجمع الإنجيليّ الأردني منذ أيلول 2019. لقد عملت في القدس ورام الله منذ عام 1980 ولغاية أوائل عام 2000 ثم استمر العمل ولكن على نحو متقطع بعد الانتقال للسكن جزئيًا في العاصمة الأردنية عمان وتأسيس إذاعة عربية على الإنترنت. الورقة عبارة عن شهادة شخصية مليئة بنقل تجارب ميدانية ودروس استفدتُ منها خلال سنوات العمل الصحفي وثم تجربتي الأخيرة في موقع رئيس لدى مجمع انجلي أردني. أعتقد أن هذه التجربة بالذات قد تكون مفيدة لأنه ولأول مرة تحدث الاستفادة من مهارات إعلامية عامة في العمل الإنجيليّ في بلد كان العمل الإنجيليّ محصورًا بالأساس في الكنائس والمؤسسات التابعة لها. أعتقد أن الاشتباك الإيجابي (وأحيانا غير الإيجابي) مع المجتمع من خلال وضع الإنجيليّين على الخارطة العامة نتج عنه تطور مهم وفتح آفاق جديدة لم يكن يعرفها البعض.
أعتقد أن القارئ العزيز المهتم بمثل هذه الأمور سيجد في الورقة أفكارًا ومعلومات ممتعة وآمل أيضًا أن تكون مفيدة.
مقدمة
من أكثر الأسئلة التي تتكرر على مسمعي كإعلامي مسيحي إنجيليّ، هو كيف يمكنني أن أعمل كصحفي في الوقت الذي تشوب مهنة الصحفي الاتهامات العديدة، من حيث المبالغة والتضليل، وما يسمى في الأردن “التسحيج” (أي الدعاية المفرطة للجهات المسؤولة) من جهة، وبين إيماني من الجهة الأخرى. وقد كان جوابي دومًا سهلًا، وهو أن الحقيقة لب الإيمان، وأن مهنة الصحافة بمفهومها الحقيقي، هي البحث عن الحقيقة ونشرها، بما ينسجم مع متطلبات الإعلام الأساسية. بل وأكثر من ذلك – أعتبر أن دور الإعلام في التوعية وتوسيع الآفاق المعرفية، وحماية المتلقي من الأكاذيب والأخبار المضللة، هي من أهم قواعد العمل الصحفي المهني المستقل.
لقد ترعرعت في بيت إنجيليّ منذ نعومة أظافري، وكان جلّ اهتمام والدي، القس جورج كُتّاب، والذي كان راعي كنائس إنجيليّة في الزرقاء والقدس ورام الله وبيت لحم، يتركز على الأمور الروحية.
وقد أجمع جيل كامل من الرعاة الإنجيليّين في مطلع القرن الماضي ووسطه، على تجنب السياسة والأمور الفكرية والأيديولوجية، وخاصة تلك المتعلقة بالشأن العام، على أساس ما جاء على لسان المسيح، كما نقله مرقس البشير في الكتاب المقدس: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (مرقس 12: 17) إضافة لمبدأ طاعة من هم في الحكم: “لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ (رومية 13: 1).
ولكن الأمور الحياتية، وخاصة بعد نكسة عام 1967، واحتلال ما تبقى من فلسطين، غيّرت الكثير. فالتضامن الأعمى للعديد من المُرسلين والضيوف الإنجيليّين القادمين من أمريكا مع إسرائيل، وبالنتيجة تبرير الظلم الذي حل بالشعب الفلسطيني، من خلال الربط بصورة مباشرة بالنبوات، فرضت علينا جميعا الخروج عن إجماع الجيل السابق من أهلنا. بدلًا من ذلك – أثبت التمحيص والتدقيق في تلك الأقوال والتفسيرات أن بعضًا منها هي أخطاء فاحشة. فأذكر على سبيل المثال، أقوال مبشرين أجانب زارونا في القدس قبل الاحتلال، وتنبأوا بنهاية العالم في حال نهاية سيطرة “الأمم” على القدس (لوقا 21: 24)، الأمر الذي سيحدث حسب تفسيرهم، في حال احتلت إسرائيل القدس، وأنهت حكم الأمم أي غير اليهود على المدينة المقدسة. طبعًا لم يتحقق ذلك ولا غيره من التنبؤات، مما أضاف الشعور بالاشمئزاز من المتنبئين فانعدم الاهتمام بأقوالهم.
لقد كان لعملي الصحفي في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وخاصة خلال الانتفاضة الأولى في فلسطين، فرصة فريدة لمعرفة عمق الظلم الذي يعيش به الشعب الفلسطيني. وكان ذلك البحث عن الحقيقة إنعاشًا للصراع الفكري الذي عشته في تلك الفترة. كان عملي في صحيفة الفجر الصادرة بالإنجليزية، فرصة فريدة للتعرف على الصحفيين الأجانب، كما التقيت وجهًا لوجه مع النتائج المرّة للاحتلال، وكيفية قيام البعض بتزوير تلك الحقائق، بالتواطؤ مع الجانب الإسرائيلي، لطمس أخبار انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني، وإبراز الادعاءات الإسرائيلية، بأن الشعب الفلسطيني كله إرهابي، وأن الفلسطينيون “ينكرون النعمة التي تأتيهم من إسرائيل”، وغير ذلك من الأقوال والادعاءات.
وكانت لي تجربة عائلية خاصة في تلك الفترة، حيث طردت إسرائيل عام 1988، وأثناء إدارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير، ابن عمتي الدكتور مبارك عوض من البلاد.[i] فقد كان مبارك يقود دورات تثقيفية لمبادئ اللاعنف، متمثلًا بتجارب الزعيم الهندي مهاتما غاندي، والقس الأمريكي المعمداني الأسود مارتن لوثر كينغ. وأذكر مشاركتي مع العائلة والأصدقاء باعتصامات أمام سجن المسكوبية في القدس، احتجاجًا على طرده، وفي محاولة لإظهار التناقض الكبير بين أقوال إسرائيل بأن الشعب الفلسطيني عنيف وإرهابي، وفي الوقت نفسه منعها إدخال مبادئ المقاومة الشعبية غير العنيفة لرفض الظلم والاحتلال.
من الطبيعي أن العمل الصحفي وخاصة الميداني، ينقل الإعلامي من الحيّز النظري إلى الحيّزين العملي والواقعي. ولذلك فمن المستحيل أن لا يتأثر أي صحفي حر ومستقل، أمام الحقائق على الأرض من ظلم واستبداد. ولكن ما كان يجري تناقله عبر وسائل الإعلام، وما يصل للمشاهد كان مختلفًا. أذكر في هذا الخصوص التحقيق الصحفي الذي شاركت فيه، وعمله برنامج ستون دقيقة التابع لشبكة CBS الأمريكية حول أحداث المسجد الأقصى عام 1990، وكيف نشرت المحطات التلفزيونية العالمية نقلاً مزيّفًا لتلك الأحداث، وتقبلت بدون تحقيق الأقوال الكاذبة لبنيامين نتنياهو (نائب وزير الخارجية آنذاك).[ii]
وكان الأمر الأكثر إزعاجًا لي ولأخرين، هو التأييد الأعمى الذي كان يقوده وعاظ ومبشرون تلفزيونيون، والذين كانوا يقدمون التحليلات الغريبة، والتي كانت تصب كلها في دعم إسرائيل وتبرير احتلالها. ومع مرور السنين وفي نظرة شمولية لكل تلك الأقوال والأفعال، كان من السهل تعرية مواقف هؤلاء المسيحيين المتصهينين، وقد يكون أسهلها إظهار التناقض والمبالغة، وتغيير المواقف لهذه الشخصيات التي كان من الواضح أنها تبحث عن الدعم المالي لأقوالهم، واستغلال رخيص للأوضاع الإنسانية التي تمر بها منطقتنا.
أذكر في هذا المجال، المواقف المتناقضة والتغييرات غير المنطقية لأحد أهم هؤلاء الأشخاص، وهو بات روبرتسون (Pat Robertson) مقدم برنامج “نادي السبعمئة” (The 700 Club) على فضائية CBN[iii] الأمريكية المختصة بالشأن المسيحي الإنجيليّ. وقد يكون أغرب القصص لهذا التخبط، ما كان يقوله روبرتسون إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982، حيث امتلأت شاشة التلفزيون بخرائط وصور للحرب، مع تفسيرات الكتاب المقدس، تحاول ربط تلك الأحداث العسكرية في لبنان مع نبوءات العهد القديم في محاولة تبريرها، تحت غطاء الادعاء أنها دليل على آخر الأيام، وأنها جزء من الخطة الإلهية. وقد يكون أغرب تناقض في أقوال روبرتسون، بأن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، هو النبي الكذاب أو ضد المسيح. ولكن تلك اللهجة تغيّرت فجأة بعد إعلان اتفاق المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي برعاية أمريكية. وبعد عشر سنوات من وصف عرفات بالنبي الكذاب والضد للمسيح، كان المبشر روبرتسون نفسه في قطاع غزة، وفي زيارة للرئيس عرفات بعد البدء بتطبيق اتفاق أوسلو.[iv]
ظهر التغيير في المواقف أيضًا، عندما اعتبر روبرتسون أن اغتيال رابين كان من الرب، بسبب تنازله عن الأراضي الفلسطينية المحتلة. واعتبر الشخص نفسه أن إصابة أريئيل شارون بجلطة قلبية قد جاء نتيجة غضب إلهي، بسبب الانسحاب أحادي الطرف من قطاع غزة، وتفكيك المستوطنات فيها. ولكن روبرتسون عاد واعتذر بعد تلك الأقوال.[v] وكل ذلك لم يقلل من إيماني أو يهز عقيدتي، ولكنه ضاعف اهتمامي بضرورة دراسة أعمق للكتاب المقدس، والبحث عن الحقيقة، ومقارنة ذلك البحث بالواقع المرير الذي كنت أعيشه. وكان ذلك صراعًا فكريًا بين الإيمان والواقع، وبين ادعاءات بعض المحللين الإنجيليّين والنظرة الشمولية للكتاب المقدس، وأهمية الحق والعدل في أقوال المسيح.
وقد وفر العمل الصحفي بطبيعة الحال فرصة فريدة لي للنشر، فنشرت العديد من النصوص في محاولة دحض تلك الادعاءات والأقاويل، وتصحيح الأخطاء والمغالطات والمبالغات، التي كانت (ولا تزال) تنشر في الإعلام الدولي، وخاصة الأمريكي.[vi] وقد كانت فرصة مهمة للتواصل مع الإعلاميين، ونشر الرواية الفلسطينية الصحيحة في كبرى الصحف والمؤسسات الإعلامية، وإفشال المحاولات لتزوير الحقائق من قبل إسرائيل. ومنها الادعاءات المتكررة غير المدعومة بالحقائق، بأن هناك اضطهاد مستمر على المسيحيين، وأن الهجرة المسيحية زادت بسبب وجود القيادة الفلسطينية، علمًا أن الهجرة للعديد من الفلسطينيين، وخاصة المثقفين وذوي القدرة المالية، قد زادت بسبب الاحتلال، وضيق الحياة تحت الحكم الإسرائيلي العسكري.
العمل الإنجيليّ في الأردن
ورغم الاهتمام المستمر في العمل الإعلامي الخارجي، إلا أنني وجدت نفسي مهتمًا على نحو متزايد بالنشر المحلي، والتعامل مع الوضع الداخلي العربي، وضرورة توضيح المواقف الإنجيليّة الحقيقية، خاصة فيما يتعلق بالصهيونية المسيحية في وسائل الإعلام العربية. وكان من الضروري في هذا المضمار أن أبحث عن كیفیة التفاعل المسیحي الإنجیلي في بلد عربي غیر فلسطین. ورغم أن العدید من الأمور المتعلقة بالصهیونیة المسیحیة موجودة في كافة المناطق العربیة، إلا أن الوضع الداخلي للكنائس الإنجیلیة في الأردن، وبالذات العلاقة مع باقي الكنائس ومع الدولة الأردنية واجه العديد من المشاكل، والتي تطلبت تحسنًا ملموسًا في موضوع العلاقات العامة، وضرورة معالجة الروایة المتعارف عليها للإنجیلین العرب الوطنيین، والتي لم یكن یعرفها سوى عدد ضئیل من السكان المحلیین.
ولقد كان لتغيير عملي بسبب ظروف عائلية، وإنشائي مؤسسة إعلامية في العاصمة الأردنية عمان، فرصة للانخراط الإيجابي في تحسين صورة الإنجيليّين، وخاصة الإنجيليّين العرب، وخُصوصًا بعد الحرب الأمريكية على العراق إبان حكم جورج بوش. فقد حدث خلط غريب خلالها بين عقيدة بوش المسيحية وقراراته السياسية، وخاصة بعد أن نشر الإعلام العربي أنه يدعم حربًا صليبية على الإرهاب، وذلك عندما استخدم بوش كلمة crusade بمعنى “الحملة”، وهي كلمة مستقاة أصلا من عبارة الحروب الصليبية. وقد حدا الأمر بالمتطرفين الإسلاميين إلى الادعاء أن الحرب الأمريكية على العراق هي حرب صليبية، رغم أن أمريكا دولة علمانية، وليست دولة مسيحية كما يعتقد البعض.[vii]
يضاف إلى أقوال روبرتسون والرئيس بوش، سيل من التصريحات لعدد كبير من المسيحيين الصهاينة، ومنهم فرانكلين جراهم (Franklin Graham)، نجل المبشر المعروف بيلي غراهام (Billy Graham)، والذي تخصّص في هجوم متكرر على الإسلام، ومن ذلك قوله بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، إن “الإسلام دين شرير”، الأمر الذي خلق إحراجًا كبيرًا للمسيحيين العرب.[viii] وكذلك الأمر بالنسبة لأقوال القس جيري فالويل (Jerry Falwell)، الذي وصف النبي محمد بالإرهابي: ” أنا أعتقد أن محمدًا كان إرهابيًا.. لقد قرأت ما يكفي.. من المسلمين وغير المسلمين، أنه كان رجل عنف، ورجل حروب”.[ix]
كما حظي دونالد ترامب (Donald Trump) ونائبه المسيحي الصهيوني مايك بنس (Mike Pence)، بدعم ملحوظ من الولايات الجنوبية والإنجيليّين عامة، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وقد أدى ذلك مرة أخرى إلى عودة جديدة إلى التراشق الإعلامي، والازدياد الملحوظ لدور المسيحيين الصهاينة. وقد تجلى ذلك بقرار نقل السفارة الأمريكية للقدس، والتلاصق الأمريكي الإسرائيلي على حساب الحق والعدل للفلسطينيين.
وقد برزت خلال سنوات ترامب الأربع، معضلة كبيرة في كيفية التعامل مع عبارة “الإنجيليّين”، حيث هناك محاولة لفصل الإنجيليّين البيض المؤيدين لإسرائيل من باقي الإنجيليّين في أمريكا، وطبعا في العالم. ورغم اتخاذ المجمع الإنجيليّ العالمي[x] مواقف محايدة في العديد من الأمور الخلافية لإدارة ترامب، إلا أن الطابع الغالب للإعلاميين في نقلهم لمواقف الأطراف المختلفة، هو استخدامهم لعبارة الإنجيليّين دون أي توضيح أو دلالة على تنوع الإنجيليّين.
حاول إلإنجيليّون في الشرق، ومن خلال البيانات والتصريحات، الابتعاد عن الإنجيليّين الأمريكيين المؤيدين لإسرائيل. وكان للمجمع الإنجيليّ في الأردن دورًا مهمًا في هذا المجال، حيث برزت تصريحات وأقوال العديد من القادة، ومنهم النائب السابق عماد صليبا المعايعة (الباشا) رئيس المجمع الإنجيليّ الأردني السابق[xi] والقس حابس النعمات الرئيس الحالي، [xii] والقس ديفيد الريحاني، ممثل الإنجيليّين الأردنيين والعرب في التحالف الإنجيليّ العالمي World Evangelical Alliance. وقد برزت في هذه الفترة رسالة وجهّها المجمع الإنجيليّ الأردني للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تشتمل على معارضة لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وكان ملخصها الطلب من الرئيس الأمريكي الاستماع لنصائح الملك عبد الله بخصوص شؤون المنطقة.[xiii]
وكان لموضوع عدم الاعتراف الكامل بالكنائس الإنجيليّة، نصيب في دراسة تمت من خلال شبكة الإعلام المجتمعي التي أسستها. وجاءت الدراسة الاستطلاعية من عام 2012، والتي عملتها المحامية تغريد الدغمي بعنوان “نحو مواطنة كاملة”، أثر الانتماء الديني على ممارسة الحقوق المدنية والحريات الدينية.[xiv]
تأسس المجمع الإنجيليّ الأردني عام 2006، وتكوّن من خمسة كنائس هي: كنيسة الاتحاد المسيحي، والكنيسة الإنجيليّة الحُرّة، وكنيسة جماعات الله الأردنية، والكنيسة المعمدانية الأردنية، وكنيسة الناصري الإنجيليّة. وجميع هذه الكنائس مسجلة رسميًا لدى وزارة العدل، منذ ما يزيد على خمسين عاما، ولها أملاكها وأوقافها[xv] وهي كنائس أردنية وبإدارة أردنية كاملة، وليس لها قيادات في الخارج. ويبلغ عدد الذين تخدمهم ما يقارب عشرة آلاف نسمة، ولها 72 كنيسة في كافة أنحاء المملكة الأردنية الهاشمية. ولدى الكنائس الإنجيلية التي يتكون المجمع منها، العديد من المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية والمراكز الثقافية، وبرامج متنوعة للدراسات اللاهوتية، ودور للنشر. وهي تقدّم خدمات إنسانية واجتماعية، منها خدمة زيارة السجون، ونادي الحكمة لكبار السن، وخدمة المرأة وغيرها. وكانت آخر انتخابات للمجمع في أيلول عام 2019، انتُخب فيها القس حابس النعمات رئيسًا. وكان لكاتب هذه السطور الشرف بأن يُنتخب كأمين سر للمجمع الإنجيليّ الأردني منذ ذلك الوقت.[xvi] كما تم توحيد الجهود الإنجيليّة في الأردن وفلسطين، من خلال إقامة اتحاد المجامع الإنجيليّة في الأردن والأراضي المقدسة، والذي تم التوقيع على نظامه الداخلي في العاصمة الأردنية عمان في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني عام 2017.[xvii]
إلا أن محاولات الإنجيليّين في فلسطين والأردن تغيير نظرة المجتمع لهم، لم تحرز تقدمًا ملحوظًا بعد، رغم قيام ثلاثة مجامع إنجيليّة وتوحيدها كما سبق وذكرنا. كما لعب استمرار رفض الجهات الرسمية الاعتراف الكامل بالكنائس الإنجيليّة، وضمان حقها في تأسيس محكمة كنيسة إنجيليّة، دورًا في عدم علو صوت الإنجيليّين. بل بالعكس من ذلك، فقد ضيّق الموقف الحكومىي على الإنجيليّين في عدة مستويات، منها المستوى الرسمي والإعلامي. ورغم حرص الإنجيليّين في الأردن على دعم موقف الحكومة من موضوع الوصاية الهاشمية في القدس ورفض الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الأمور بقيت دون أي تغيير، بسبب تعنت الحكومة على موقفها من عدم الاعتراف. وقد وفّر ذلك الموقف الحكومي السلبي، فرصة لبعض رؤساء الكنائس، ومنهم مطران الأرثوذكس في الأردن خريستوفورس عطا الله، ورئيس مجلس المطارنة في الأردن إبراهيم دبور، الهجوم على الكنائس الإنجيليّة، وتكرار القول إنها كنائس غير معترف بها ولها أجندة خارجية مشكوك فيها.
وتعود مشكلة الكنائس الإنجيليّة في دول المشرق، إلى حقيقة بنيتها الإدارية، والتي تعتمد على مبدأ اللامركزية. وهو عكس المتبع لدى الكنائس الأخرى، والتي لها قيادة مركزية، يمكن للحكومات التعامل مع رأس الهرم بسهولة وعلى نحو مباشر. ورغم أن اللامركزية لدى الكنائس الإنجيليّة قد وفرت قيادات محلية وطنية، بطريقة مغايرة للعديد من الطوائف الأخرى، ألا أن ذلك الأمر لم يسعفها، حيث تفضل الدول أن يكون للكنائس نظام هرمي منضبط، يوفر لها سهولة التواصل، وتطبيق أي أمر يجري الاتفاق عليه.
ورغم أن الكنائس الإنجيليّة قد حصلت منذ أوائل القرن العشرين على الاعتراف الحكومي، إلا أنها لم تسع لإقامة محاكم كنسية، وذلك بسبب قناعتها بأنه ما دام يسمح لكنائسها إجراء مراسم الزواج، وقبول الجهات الرسمية لشهادات الزواج للكنائس الإنجيليّة، لم يبق للمحاكم سوى التعامل مع موضوعي الطلاق والإرث. وحيث أن الكنائس الإنجيليّة ترفض فكرة الطلاق، وحيث أن موضوع الإرث يُبت فيه حسب أنظمة الشريعة الإسلامية، فلم يهتم رؤساء الكنائس الإنجيليّة في الماضي بموضوع الاعتراف، وكل ما له من مزايا شكلية، مثل اللقاءات الحكومية، والحصول على مميزات خاصة. ولم يكن هناك شعور بأنها ضرورية للحياة المسيحية، المبنية على مبدأ التواضع وغياب شكليات ومزايا المطارنة والبطاركة، والتي طالما كانت مصدر انتقاد لدى العديد منهم.
طبعًا مع مرور الزمن وتوسع الكنائس الإنجيليّة وزيادة أهميتها، خاصة بعد إصدار قانون الطوائف المسيحية رقم 28 لعام 2014[xviii] وتغييب الكنائس الإنجيليّة من ملحق الكنائس المعترف بها رسميًا، أصبح الأمر ملحًا، وأصبح الضغط من قبل الأعضاء على رؤساء كنائسهم متزايدًا. وقد كان هذا الأمر محور لقاء فريد من نوعه، عقد بتوجيهات ملكية في قصر الحسينية في 12 كانون أول 2019، بين الأمير غازي بن محمد، المسؤول عن الملف الديني في الديوان الملكي، وبشر خصاونة مدير مكتب الملك عبد الله آنذاك (وقد أصبح رئيس وزراء الأردن في خريف عام 2020) مع ممثلي الكنائس الإنجيليّة، والهيئة الإدارية للمجمع الإنجيليّ في الأردن.[xix] وقد طلب الأمير غازي من الإنجيليّين في الأردن، توحيد جهودهم في إطار قانوني، يشكّل مرجعية واحدة، ليسهل للدولة الأردنية التعامل معها. وقد نتج عن ذلك الطلب، سلسلة من اللقاءات الداخلية ومع خبراء قانونيين، بهدف الاتفاق على مسودة نظام داخلي للطائفة الإنجيليّة، يكون أساسًا للحوار مع الجهات الرسمية، بهدف إيجاد حل قانوني، يضمن تجاوز الحالة غير المستقرة للكنائس الإنجيليّة.
خلاصة وتوصيات
رغم الصعوبات والتحديات، يبقى دور الإعلامي دائمًا هو البحث عن الحقيقة، والعمل على توعية الناس بتلك الحقيقة، بعيدًا عن التحيُّز والمصلحة الشخصية. آمل أن أكون قد حققت هذا الهدف، ووفرت ولو بنسبة قليلة نشر الحقيقة بكل أمانة وإخلاص.
وفي الختام، سأصيغ مجموعة من التوصيات، لعل وعسى أن تكون ذات فائدة لمن يهمهم الأمر:
- لقد أصبح من الضروري أن یتجاوز القادة الإنجیلیون الموضوع الروحي البحت، وأن يزيدوا من اهتمامهم بالشأن العام، ویشمل ذلك التفاعل الإيجابي مع المجتمع المحلي والمؤسسات الرسمية، منها على سبیل المثال لا الحصر، المعایدة على المسؤولين في المناسبات الوطنيّة، والتواصل الدائم مع الجهات الرسمیة، ومع النواب، ولا سیما النواب المسیحيین.
- كما أصبح من الضروري أن يزيد المسؤولون من حضورهم الإعلامي، وعدم تفويت الفرص لذلك، بل بالعكس المبادرة لتقديم موقف مسیحي إنجیلي لكل ما هو ذو اهتمام عام.
- يفضل أن يحدث ذلك من خلال تدریب وتعیین متخصصین في أمور العلاقات العامة، یكون لهم دورهم في المبادرة للنشر والتفاعل مع الجهات العامة، وتقدیم مادة مستمرة للإعلام لیس بهدف “تلمیع” القادة الروحیین، بقدر توفیر المعلومات الدقیقة والصادقة لنشاطات الكنائس في خدمات المجتمع. كما ومن الضروري أن يُصحّح من يتابع هذا الملف أي معلومات خاطئة، أو روایات غیر دقیقة للمعتقد الإنجیلي، أو أهداف الكنائس والمؤسسات التابعة لها.
- عند تعذّر وجود أشخاص لمتابعة أمور العلاقات العامة، من الضرورة أن تتوفّر دورات أساسیة للمسؤولین في الكنائس والمؤسسات الكنسیة، لتوضیح كیفیة التعامل مع أمور الشأن العام والإعلام، لیس بهدف الدعایة الشخصیة، بل بهدف ملء الفراغ، وعدم السماح للآخرین لرسم صورة للإنجیلیین ومواقفهم.
- · هناك خط رفیع بین التوعیة والدعایة. قد يصبح الإعلام مصدر إزعاج وضرر، في حال المبالغة في التعامل معه. ويجب على القائمین على الكنائس العمل على التوازن بین الضرورات الإعلامیة، وما قد یعتبره البعض دعایة. وقد یكون الحل الأولي لذلك، وبسبب الثورة الإعلامیة، إنشاء الكنائس والمؤسسات الكنسیة موقعًا خاصًا لها على الإنترنت، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، ومن ثم التفكیر بانتقاء متى يكون التعامل مع الإعلام الخارجي.
- لقد أصبح من الضروري في كل الأحوال أن یتمسك من یتعامل مع الأمر الإعلامي، بالمصداقیة والتوازن بین ما هو ضروري ومفید، وبین ما قد يُفهم منه أنه محاولة ذاتیة من أجل “التلمیع.” لذلك قد یكون من الأفضل أن یدیر أمور العلاقات العامة شخص خبیر، ولیس رئیس الكنیسة أو المؤسسة الكنسیة.
[i] مقابلة مع الدكتور مبارك:
http://maaber.50megs.com/issue_december04/non_violence1a.htm
[ii]https://www.huffpost.com/entry/bibi-netanyahu-falsifies-history-temple-mount_b_8461612.
[iii]https://www1.cbn.com/700club.
[iv] مشاهدات مباشرة للكاتب لتلفزيون CBN.
[v]https://www.dw.com/ar/
[vi] يمكن قراءة مقال في هذا الخصوص باللغة لإنجليزية على الرابط الآتي:
[vii]https://www.alarabiya.net/articles/2004%2F04%2F19%2F2402.html.
[viii]http://www.almeshkat.net/vb/showthread.php?t=7504.
[ix]https://www.aljazeera.net/news/arabic/2002/10/9.
[x]https://worldea.org/en/news/world-evangelical-alliance-head-evangelicalism-needs-to-be-reclaimed-in-trump-era/
[xi]https://www.akhbarelbalad.net/ar/1/6/4683/
[xii]https://jfranews.com.jo/article/296820
[xiii]http://www.comeandsee.com/ar/post/2853029
[xiv]http://ammannet.net/sites/default/files/2019-05/beliefs.pdf
[xv]https://jevangelicalc.weebly.com/
[xvi]https://www.ammonnews.net/article/481929
[xvii]https://abouna.org/content/
[xviii]https://doc.pm.gov.jo/DocuWare/PlatformRO/WebClient/1/Integration?lc=VXNlcj1hZG1pblxuUHdkPURvY3VXQHIz0&p=V&fc=7e6f119f-71f4-4ed3-8023-b6a6db8bcb15&did=34225
[xix]https://ammannet.net
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.