
السابق اثنا عشر طابعًا جديدًا يُخلِّدون “قدّيسو الأردن”

القس وليد المدانات
الرئيس الروحي لطائفة كنيسة الناصري الإنجيلية في الأردن
ما زالت كلمات سمعتها من رجلٍ يُفترض أنه عاقل ويمثل شريحة من أبناء هذا الوطن تتردد في ذهني وتقلقني، إذ لم أستطع تجاوزها أو الصمت تجاهها. فحديثه لا يمثلني، ولا يمثل الغالبية الساحقة من المسيحيين المحترمين الذين يوقّرون العلاقات الإنسانية، ويكرّمون الزواج كعلاقة مقدسة قائمة على المحبة والاحترام، بعيدًا عن التمييز في الدين أو العِرق أو اللون أو العادات أو الجغرافيا.
ولا أزال أتساءل بدهشة: كيف يتجرأ إنسان على القول إن الزواج غير المسيحي، أو الزواج المسيحي خارج طائفته، هو زنى؟
إنّ مؤسسة الزواج من أقدم وأقدس الروابط التي عرفتها البشرية، إذ وُجدت منذ بدء الخليقة كعهد بين رجل وامرأة أمام الله، قبل ظهور الديانات والمؤسسات الدينية نفسها. لذلك، فإن وصف الزواج غير المسيحي بأنه زنى يُعدّ تعدّيًا على الفهم الإنساني واللاهوتي للزواج، وتشويهًا لمقاصده السامية كعهد مقدس يقوم على الأمانة والالتزام.
الزواج في أصله إلهي وإنساني
الكتاب المقدس يعلّم أن الزواج بدأ في جنة عدن عندما قال الرب الإله:
“لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا” سفر التكوين 2: 24
وفي العهد الجديد يؤكد الرب يسوع هذا التعليم بقوله: “فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لَا يُفَرِّقْهُ إِنسَانٌ” إنجيل متى19: 6 فالزواج إذًا نظام إلهي عام وضعه الله منذ البدء للبشر جميعًا، وليس امتيازًا لمجموعة دون أخرى.
الزنى في المفهوم الكتابي
الزنى في المفهوم الكتابي لا يعني الزواج المختلف دينيًا أو طائفيًا، بل يشير إلى العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج الشرعي أو خيانة العهد الزوجي. فالوصية الإلهية واضحة “لا تزنِ” في سفر الخروج 20: 14 تعني: لا تنتهك قدسية العهد بالخيانة أو العلاقات غير الشرعية. لذلك فإن وصف الزواج المختلف دينيًا بأنه زنى هو إساءة لاستخدام المفاهيم الدينية وتحويرٌ خطيرٌ للغة الوحي الإلهي.
الزواج في اللاهوت المسيحي
ترى المسيحية أن الزواج المسيحي يُجسّد علاقة المسيح بكنيسته: “هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ” رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 5: 32 هو إشارة إلى المحبة العظيمة التي أحبَّ بها المسيح الكنيسة وفداها بدمه.
ولا أرى حاجة للخوض في تفاصيل أكثر، إذ يكفي التأمل في كلمات بولس الرسول لندرك عظمة فكرة الزواج وقدسيته في المنظور الإلهي.
ومع ذلك، يؤكد كل من القديس أوغسطينوس والقديس توما الأكويني أن الزواج بين غير المؤمنين يبقى صحيحًا من حيث المبدأ، لأنه يقوم على الإرادة الحرة والالتزام بالعهد، وهما جوهر الزواج الحقيقي. ولم يُعرف عن أيٍّ من قديسي الكنيسة أو كتّابها أنهم أساؤوا أو حرّضوا على القول إن الزواج الغير مسيحي يُعدّ زنى، إذ أدركوا بعمق المعنى الإلهي والكتابي للزواج بوصفه عهدًا مقدسًا أسّسه الله لجميع البشر.
احترام قدسية الزواج الإنساني
حين يصف أحدهم الزواج غير المسيحي بالزنى، فإنه لا يهين الأشخاص فحسب، بل يعتدي على كرامة الإنسان التي منحها الله لجميع البشر. فالمسيح نفسه احترم الزواج الإنساني وبارك وشارك في عرس قانا الجليل، وبالمناسبة لم يكن زواجاً بالمفهوم أو الطقس الديني المسيحي.
كما يعلن الكتاب المقدس “لِيَكُنِ ٱلزِّوَاجُ مُكَرَّمًا عِنْدَ كُلِّ ٱلْبَشَرِ، وَٱلْمَضْجَعُ غَيْرَ نَجِسٍ” الرسالة إلى العبرانيين 13: 4، في دعوة صريحة لاحترام قدسية الزواج الإنساني عند الجميع.
الخاتمة
إن الجرأة على وصف الزواج غير المسيحي بالزنى تكشف جهلًا لاهوتيًا وكبرياءً روحيًا لا ينسجمان مع روح الإنجيل. فالله، الذي هو محبة، يحترم العهود الصادقة بين البشر ويدعو الجميع إلى القداسة والأمانة في كل علاقة إنسانية.
الزواج في جوهره عهد مسؤول أمام الله والمجتمع، وليس امتيازًا دينيًا لطائفة أو جماعة، بل هو هبة إلهية للبشرية جمعاء منذ بدء الخليقة. واحترام هذا العهد هو احترام لإرادة الله التي جمعت بين الرجل والمرأة في أقدس أشكال الشركة الإنسانية.


تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!