Skip to content
Skip to content

حينَ يختبرُ الله نفسَهُ فينا

تاريخ النشر: نوفمبر 12, 2025 1:00 م
خليل هلسة

خليل هلسة*

طيلة حياتي كنتُ أعيش صراعًا بين ما أفهمه بعقلي، وما أختبره بقلبي، بين التّحليل النفسيّ البارد والإيمان الّذي لا يطلب برهانًا. وعندما دخلتُ عالم الأيتام، وجدتُ نفسي للمرّة الأولى في مكانٍ لا يسمح لي أن أختبئ خلف الفكر، ولا أنْ أختصر الوجع في تشخيص.

كنتُ أظنّ أنَّ التّناقضات الّتي تسكُنُني هي عيبٌ عليَّ أنْ أُصلِحه، إلى أنْ بدأت العمل مع الأيتام فاكتشفتُ أنَّ الله يعمل أحيانًا من داخل التّناقض نفسه؛ من التقاء العقل الّذي يبحث، والقلب الّذي ينكسر، والإيمان الّذي ينجو رغم كلِّ الأسئلة.

حين بدأتُ العمل مع الأيتام، كنتُ أظنُّ أنَّني ذاهبٌ إليهم كخبيرٍ نفسيٍّ،
سأقدّم العلاج، أُطبّق المعرفة، وأساعدهم على تجاوز صدماتٍ نفسيّةٍ مُتراكمةٍ.
كنتُ أتصوّر أنَّني أدخل مساحةً أملك مفاتيحها العلميّة،
لكنَّني ما لبثتُ أنْ وجدتُ نفسي أمام عوالمَ أعمق من أيّ كتابٍ درستُه،
وأمام معاناةٍ لا تُقاس بالأعراض، بل تُقاس بغياب المعنى نفسه.
كنتُ أظنُّ أنَّني سأُعالجهم، فاكتشفتُ أنَّني أنا من بدأ يتعرّى أمام أسئلتهم الصّامتة.
في عيونهم وجدتُ ما لم أجده في أيّ عيادةٍ، وفي وجعهم لمحتُ صورة الله الّذي يختبر العالم من خلال الألم.

وهُنا أدركتُ أنَّ خدمة الأيتام ليسَتْ مُجرَّد امتدادٍ للمهنة أو العمل الخيريّ، بل هي لقاءٌ بين الإنسان والله عند حدود الجرح. هي المكان الّذي يتوقّف فيه المنطق السريريّ، ويبدأ فيه وعيٌ جديد: أنَّ الخدمة ليسَت علاجًا من الخارج، بل شفاءٌ متبادلٌ من الدّاخل.

في جوهرها، خدمة الأيتام ليسَتْ عملًا اجتماعيًّا، بل اختبارٌ لاهوتيٌّ عميقٌ يُعيد تعريف معنى البنوَّة ومعنى الأبوّة في آنٍ واحد. فالله، في أحد أعمق إعلاناته عن ذاته، اختار أنْ يُعرّف نفسَه لا كملكٍ ولا كقاضٍ، بل كـ «أبٍ لليتامى».
وهُنا يكمن السرّ: إنَّ خدمة الأيتام ليسَتْ نحن وهم، بل هي نقطة التقاءٍ بين ضعف الإنسان ووجه الله الأبويّ.
نحن لا نذهب إليهم حاملين الله؛ نحن نذهب لنكتشف الله من خلالهم.

في هذا الميدان، تنهار الأدوار التّقليديّة:
الخادم لا يعود المعلّم، واليتيم لا يبقى المتلقّي.
هناك، في صمت العيون الّتي جرّبت الفقد، تنقلب المفاهيم.
فبدل أنْ نُعلّمهم معنى الرجاء، نكتشف نحنُ أنَّ الرجاء عندهم فطرة.
وبدل أنْ نمنحهم الحنان، نجدهم يعرّفوننا على نقاء الحبّ غير المشروط، ذلك الّذي لا يُقايض ولا يطالب.

لكن هذه الخدمة تُواجه تحدياتٍ ليسَتْ ماديّةً بقدر ما هي وجوديّة.
كيف نحافظ على قلوبنا من أنْ تتحوَّل إلى آليات رحمةٍ مؤقَّتةٍ؟
كيف نُعطي دون أن نصنع في داخلهم شعورًا بأنَّهم متلقّون دائمون؟
وكيف نُساعدهم دون أن نُعيد إنتاج فكرة النَّقص فيهم؟

الإنجيل لا يدعونا إلى تعويض النَّقص، بل إلى إعلان الكرامة.
ليس المطلوب أنْ نُعيد لهم ما فُقد، بل أنْ نُريهم أنَّهم لم يفقدوا ما يجعلهم أبناء الله في الأصل.

الميزة الكُبرى في خدمة الأيتام ليسَتْ في النتائج، بل في التحوّل المُتبادل.
هم يتعافون من اليُتم، ونحن نتعافى من وهم الاكتفاء.
هم يتعلَّمون أنَّ الحبّ ممكن، ونحن نتعلَّم أنَّ الحبّ لا يكتمل إلّا حين يخرج من حساباتنا.
في هذه المساحة، تُختبر كلمة بولس القائلة: «قُدِّسوا بعضكم بعضًا في المحبّة»، لأنَّ المحبّة هُنا لا تتخذ شكل العطاء بل شكل الاعتراف بالإنسان كصورةٍ لله مهما كانت مكسورة.

حين ننظر إليهم بعين الخادم، نراهم مُحتاجين.
لكن حين ننظر بعين المسيح، نراهم شهودًا على حضور الله في أضعف صوره.
هم ليسوا «ملفًّا رعويًّا» في جدول الخدمة، بل هم مرايا تكشف لنا أيّ نوعٍ من الخُدّام نحن:
هل نحن الّذين نُعيد رسم صور الله في النّاس؟
أم الّذين نُعيد تأكيد الفروق بين المعطي والمحتاج؟
رُبّما السّؤال الأعمق ليسَ: «كيف نخدم الأيتام؟»
بل: «هل نسمح لهم أنْ يخدمونا؟»
هل نسمح لبراءتهم أنْ تُخلخِلَ لاهوتنا العقليّ الجامد؟
هل نؤمن أنّ الله قد يختبئ خلف نظرة طفلٍ فقد أباه؟
وهل نجرؤ أن نعترف أنَّ في كلّ واحدٍ منّا يتيمًا صغيرًا لم يُشفَ بعد،
وأنَّنا حين نحتضنهم، يحتضننا الله من خلالهم؟.

*خليل هلسة: أخصائي نفسي، ومتطوِّع في مُبادرة سندك.

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment