
السابق الكَرَاهيَة حَتّى مَتَى؟
بقلم: المحامي جواد بولس
أثار الاعتداء الإرهابيّ الدمويّ الّذي نُفِّذَ يوم الأحد الفائت على كنيسة “مار الياس” في حي دويلعة في العاصمة السوريّة دمشق، موجةً من ردود الفعل المُستنكِرة والرّافضة. كانت الجريمة كبيرة وبشعة، ودماء عشرات الضحايا الأبرياء استفزَّت الكثيرين وأدَّتْ إلى موجةٍ من الاستنكارات والشّجب في سوريا وخارجها.
يستطيع القارئ أنْ يُتابع تفاصيل الجريمة من سيل الأخبار الّتي تطرَّقَتْ إلى هذه الحادثة. أخبار سيطويها الزّمن وسيطمرها غباره، زمن الدمّ والحقد والجهل والتّفاهة والكراهية، سوف تنضمُّ هذه الجريمة إلى سابقاتها من جرائم نُفِّذَتْ على خلفيّاتٍ طائفيّةٍ، واعتداءاتٍ أسقطَت أعدادًا من الضحايا الّذين أصبحوا ذاكرةً للتّاريخ؛ وستُراكم، كما راكمت سابقاتها أيضًا، جرعاتٌ من الخوفِ في نفوس من بقوا أحياء من أبناء الأقلّيّة المسيحيّة، ويواجهون شرقًا عليلًا لا يترك لأهله فرصًا للعيش، إلا بمذلّةٍ وبخوفٍ أو بالبحث عن نجاةٍ وملجأ خارجَ أوطانهم. لقد أعادتنا جريمة كنيسة مار الياس إلى أزمة مسيحيّي الشّرق، وذكّرتنا بأحّد أهم أسباب تناقص أعدادهم في معظم دول المنطقة، وبالتّلاشي كُليًّا في أجزاءٍ منها.
لا تقتصر أزمة المسيحيّين العرب على سوريا وحسب، وإن كانت أحداثها تتصدَّر اليوم ما يجري في منطقتنا، فلقد سبقتها أزماتٌ شبيهةٌ في فلسطين ومصر ولبنان والعراق. في كلِّ مرّة تحدث جريمة، كتلك الّتي ارتكبت هذا الأسبوع في دمشق، تتزاحم أقلام الكُتّاب العرب في التّأكيد على كون هؤلاء المسيحيّين عربًا أقحاحًا، سكنوا البلاد قبل كلّ وافدٍ ومحتلٍّ، وأنَّهم أصحاب حضارة عريقة وثقافة وهويّة شرقيّة خالصة، وقد بنوا مع من سكنوا حاضراتهم وأسَّسوا نسيجًا راقيًا لمجتمعٍ شرقيٍّ أضاء فضاء المنطقة والجوار.
لقد كانت عروبتهم ساطعة وانتماؤهم لأوطانهم خالصة، وقد وقفوا وساندوا أبناء قومهم فقاسموهم الأرض والخبز، والحلم والتحدّي. هكذا يمضي المُحلِّلون وبعض المؤرّخين ويذكرونا بأنَّه حتّى عندما غزا بعض الطامعين أرضهم المُقدّسة تخندق مسيحيّو البلاد مع أبناء أمَّتهم، وذادوا عنها في حربٍ أصاب من سمّاها حروب”الفرنجة” لا “الحروب الصليبيّة”، ليُدلِّلَ على أنَّ الصّليب، الّذي تمسَّح به هؤلاء الغزاة الطامعون، ما هو إلّا ذريعةً وأداة تمويه وخدعة. فصليب عيسى وحنّا وعلي وجمال في فلسطين والشّرق، كان الصّليب الحقّ، صليب النّاصرة والقدس ودمشق الّذي حافظوا عليه جيلًا بعد جيل، وإنْ كانت طريقهم طريق آلامٍ وآمال.
“ليلُ سوريا طويلٌ” وليلُ فلسطين طويلٌ وبارد، فهنا أيضًا، لا في العراق وسوريا فحسب، في مهد المسيح والمسيحيّة، يتبخَّر المسيحيّون وتقلُّ أعدادهم يومًا بعد يوم. لا حاجة لإغراق القارئ بالإحصائيّات وهي كثيرة، فقد نشرها كُتَّابٌ كانوا قد تطرَّقوا إلى ظاهرة هجرة مسيحيّي الشّرق أو تهجيرهم. لقد حلَّل هؤلاء الكُتّاب وسبروا عوالم وعوالم، ولخَّصوا وأجادوا؛ فالظاهرة تُقلِق، لا الكُتّاب المسيحيّون وحدهم، بل كلّ عاقل وغيور على ما بُني من نسيجٍ اجتماعيّ صحّيّ في مُجتمعات عُرِفَتْ كيف تمتزج فيها الثّقافات والحضارات وقيم الدّيانات والإنسانيّة.
مع كلِّ جريمةٍ تكثر المدائح في حقِّ التّعدُّديّة والتّسامح وفضل الهويّة الجامعة على خناجر الفتنة والطائفيّة والتكفير والقتل. يكتبون من أجل إيقاف النّزف ودرء اكتمال المصيبة وتنتشر لقاءات التّسامح ومنصّات يملؤها رجال دين وكأنَّهم لا يعيشون بين مجتمعاتهم والمُصلّين لا يأمّون معابدهم. نسمعهم يُردِّدون تعاليم الدّيانات السّمحة المُسالمة المُحبّة لِمَنْ ليسَ على دينهم ونقول فليكن، فبعض هذا الكلام أحسن من عدمه، نقول ونعرف أنَّ المجزرة التّالية آتية، فنتذكَّر أنَّ قضيّة مسيحيّي الشّرق هي قضيّة كلّ أهل الشّرق وهي أكبر من لقاءٍ للتّسامح، ومأساتهم أعمق وأعقد من وعظة عن التّآخي.
يعتقدُ البعضُ أنَّ المُشكلة تكمن في “الدّين” نفسه؛ فلا دين يرضى أن يعيش في عباءة دين آخر أو تحت عمامته؛ ويقول آخر أنَّ المُشكلة ليسَتْ في الأديان نفسها بل بمن يدَّعيها بعصبيّةٍ وبجهلٍ وعندما يُجنِّد الدّعاة دينهم حتّى يُصبح مولِّدات لإقصاء الغير وأدوات لذبحه، مثلما حصل مِرارًا في عدّة معابد ومؤخرًّا في كنيسة مار الياس- دويلعة.
عانى مسيحيّو فلسطين ما عاناه مسيحيّو الشّرق كلُّهم، بيد أنَّ أزمتهم تفاقمت في عام النّكبة الّتي “أرخت سدولها” على جميع الفلسطينيّين ولم ترحم من بينهم أحّدًا، مسلمًا كان أم مسيحيًّا، وشكَّلت محطّةً فاصلةً في تهجيرهم وإنقاص أعدادهم حتّى باتوا في فلسطين أقلّيّة ضئيلة في طريقها إلى الإندثار. لقد كتب الكثير عن أسباب حدوث هذه الحالة، في فلسطين والشّرق عامّةً، ولن أسرد في عجالة، ما قيل وما كُتِب، لكنّني أؤكِّد على أنَّ مِن أخطر أسباب نشوء هذه الحالة، هو المناخ العامّ السّائد في معظم الدّول العربيّة والمُهيمن بين مُجتمعاتها. لقد تضافرت مجموعة من العوامل، بعضها من توظيف فئاتٍ محلّيّةٍ تعتاش على هذه المناخات المريضة، وبعضها تُغذّيه عناصر أجنبيّة ودخيلة تزرع الفرقة والفتن كي تحصد النّفط والغاز والمياه والذّهب، تضافروا وخلقوا فضاءات تخمّر وتحضن وتنثر بذور رفض الآخر واستعدائه، وتصنع مُجتمعات يتحكَّم فيها الفقر والقمع والجهل وقاعدة “من ليس على ديننا فهو ليس منّا”. لقد تداعت هذه الحالة مُنذ عقودٍ طويلةٍ وتفاقمت حتّى أمسَتْ شعوب الشّرق ضحايا لأنظمة الاستبداد ورعاتها، وحتّى سيطر الخوف على شرائح واسعة من المسيحيّين وفقدوا مشاعر الطمأنينة والاستقرار واستبدلوها بمشاعر الغربة والاغتراب وبالنّزعة إلى الهجرة والتّفتيش عن شواطى يحسبونها أكثر أمنًا وخلاصًا.
يُغذّي بعض الجهلة والمُغرضين من بين الفرق الإسلاميّة الأصوليّة، في سوريا وفلسطين والعراق وبيننا، مقولةً تجزم بأنَّك: “ما دمت مسيحيًّا فأنتَ صليبيّ” ومصيركَ كمصير العدوّ دونالد ترامب وككلِّ كافرٍ ومرتدٍّ: إلى جهنم. وإذا كنتَ علمانيًّا فأنتَ زنديق وفاسق وكافر. يفعل هؤلاء ما يفعلونه عامدين على ترسيخ عقيدة التفرقة بين مسيحيّة صليبيّة، لا يُوجد غيرها، وبين إسلامهم؛ ويزرع هؤلاء هذه المفاهيم في عقول اتباعهم حتّى يؤمنوا بأنَّ كلّ مسيحيّ، غربيّ أو عربيّ على حدٍّ سواء، هو عدوّ الإسلام، ومصيره على الأرض جهنم، ويؤكِّدون لاتباعهم أيضًا، بأنَّ كلّ علمانيّ وغير مُتديّن هو أيضًا زنديق وفاسق وكافر، ومصيره، على الأرض، أيضًا جهنّم.
كيف ولدت هذه المناخات الخطيرة وهل يمكن حسرها أو مواجهتها؟ الأسباب كثيرة وكما قلنا بعضها من صناعات محلّيّة تُربّي التّفاهة والاستحمار، وبعضها الآخر مُستورد من غربٍ معربدٍ واستعمارٍ مستوحشٍ، ولجميعهم مصلحة بالتنابذ وبالاقتتالات الطائفيّة، خاصّةً بعد هزيمة التّيّار القوميّ العربيّ الّذي اغتنى واشتدَّ ببُناته العرب المسيحيّين والمُسلمين وشكَّل حاضنةً وحصنا لجميعهم، وفي فلسطين بعد هزيمة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وتراجعها وهي الّتي اغتنت كذلك ببُناتها من مسيحيّين ومُسلمين وشكَّلت لهم أيضًا حُصنًا وحاضنة آمنة. فهل ممكن “أنْ تطوف سماء الشّرق بالضّياء وتنشر شمسها في كلِّ سماء”؟ لا أظن!
لقد سمعت كلمة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر اليازجي في جنازة ضحايا مذبحة كنيسة مار الياس، وشعرتُ بقوّة إيمانه وإصراره على هويّته السوريّة العربيّة المسيحيّة وتأكيده على التوجُّه “لكلّ سوريّ، مُسلم كان أو مسيحيّ، في هذا البلد، لأنَّ ما حصل ليس حادثةً فرديّةً ولا تصرُّفًا فرديًّا وليس اعتداءً على شخص أو على عائلة. إنّه اعتداءٌ على كلِّ سوريّ وعلى كلِّ سوريا وهو اعتداء على الكيان المسيحيّ بشكلٍّ خاصٍّ.”
هكذا قال وعتب على رموز النّظام الجديد لأنَّ أحدًا منهم لم يأتِ إلى مكان المجزرة لا مُتفقِّدًا ولا مُعزّيًا. أحسستُ أنَّه يتّهمهم ولا يعاتبهم فقط، ربما لأنَّه يعرف أنَّ ما بين مذبحة كنيسة “سيّدة النّجاة” في العراق عام 2010، وبين مذبحة كنيسة “مار الياس” في دمشق، هزيمة المسيحيّة الشّرقيّة قد أنجزت تمامًا!.
عن موقع يافطة
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!