Skip to content
Skip to content

بونهوفرات غزة

تاريخ النشر: نوفمبر 1, 2025 10:28 م
46bdf169-2090-43e0-bb45-002fb3d6522d

بقلم: هند شريدة*

المصدر: مجلة تيلوس، عدد 12

قد يبدو مزيجاً غريباً أن تسمَعَ بماهيّة مُشكّلةٍ كالتّالي؛ قسّ ألمانيّ، ولاهوتيّ لوثريّ، تَدَرّجَ بين طَريدٍ، فَسَجينٍ، فَشَهيد، أُعدِمَ على يد القوّات النّازية لمُشاركَتِهِ “غير المباشرة” في محاولة اغتيال أدولف هتلر في ألمانيا. بطاقة هوياتيّة مركّبة، لمن آثَرَ أنْ يُحوّلَ إيمانَهُ فِعلاً نبويّاً وشَهادةً حيّة، فسجلّه التاريخ كشهيدٍ مقاوِم: ديتريش بونهوفر .Dietrich Bonhoeffer –

هي قصّة وعيٍ جُبِلَتْ بنارِ الملاحم الدّامية، تخلّلتها معاناة فقْدِهِ الشّخصي وَوَيْلاتِ حربٍ ضَروسٍ جرّفت معها كلّ شيء، عندما فُجِعَ بمقتَلِ أخيه (والتر) في الحرب العالمية الأولى، واقترف النازيون جريمة إعدام بحقّ أخيه (كلاوس) وبعض أصهاره، فتشكّل موقِفَهُ مِن شُرورِ الحروبِ الإباديّةِ ضِدّ رأسِ المالِ البشريّ، وقرّر على إثرها أنْ يَنحازَ للحَقّ.

كان لِوازعِهِ العقائديّ والرّوحانيّ أثراً في اتّخاذِ موقفٍ راديكاليّ عميقٍ مِنْ آلةِ القَتل التي تفتك بالجماعة بلا مواربة، وقرّر مُكافحة اعتقادِ الزعيم- أو Der Führer  كما كان النازيّ الأكبرَ يُكنّى- بالتميّز الآري والتفوّق العرقيّ الأبيض على الآخر، والعنصريّة القائمة على أساس الهويّة، فذاك الاعتقاد أثار موقف بونهوفر الرّافض لهذا العِداء اللاأخلاقيّ، الذي يقيم العوازل، ويزيد الهوة بين شعوب المعمورة.


ديتريش بونهوفر يعزف على البيانو خلال حفلة عيد الميلاد. مصدر الصورة: من أرشيف Alamy Stock Photo)).

هرولةً للوراء قليلاً، ولوضع الأحداث في نِصابها الزمني. بالرّغم من قدومِ بونهوفر من عائلة أرستقراطية وبراعته بالفنون وعزف البيانو، إلا أنه فاجأ عائلته باختياره دراسة اللاهوت، حتى حصّل شهادة الدكتوراة في سن صغيرة، إذ لم يكن يتجاوز حينها 24 عاماً. تعمّقت اهتماماته بالعدالة الاجتماعيّة، لتأثّره الشّديد بنضالِ الكنائس الأفرو-أمريكية في حيّ “هارلم”، موطن الأرواح المتمرّدة، التي كافَحَت ضدّ التميّيز العنصريّ. أصبح بونهوفر فور عودته إلى برلين ورسامته قسّاً لكنيسة سانت-ماثيو اللّوثرية، من أوائل الأصوات الكَنَسيّة المعارضةِ لهتلر، إذ رفض تأليهَهُ، وهاجَمَ أوامره المشجعّة على اضطهاد اليهود. كما رفض التّماهي مع الكنائس الرسمية التي خضعت لانتشارِ عدوى النّازية في ثناياها، بل شارك في تأسيس «رابطة قساوسة الطوارئ»، ثمّ ما يعرف بـ «الكنيسة المعترفة»، التي أعلنت ولاءَها للمسيح فقط. تجلّى موقف بونهوفر بخطابه الإذاعيّ الذي حذّر فيه من
«عبادة القائد»، لكن، سرعان ما أوزَعَت أجهزة البوليس السرّي (الجستابو) لقطع البثّ قبل أن ينهي حديثه. وقد كتب من وحي موعظته على الإذاعة ما جاء في كتابه الشهير (تَكلِفَةُ التّلمذة- (The cost of discipleship ، حيث ميّز بين «النّعمة الرّخيصة» و«النّعمة المُكلفة»، التي تُعيد جَبْلَ الحياة وتغيّيرها، وتدعو دوماً إلى طاعة المسيح مهما كلّف الأمر.

ومهما يكن من أمر، فإنّ تلك القراراتِ البطوليّةِ والثورية التي تستحقّ النّعمة في ثناياها، هي التي جعلت قسّاً مثله يختار الانخراط مع مجموعة المقاومة السّرية داخل جهاز المخابرات العسكرية الألمانية Abwehr ، حيث عمل على بناء شبكة من الحلفاء من خلال إيصال رسائل المقاومة إلى الخارج بغية تفكيك نظام هتلر، ووضع حدّ لشرّه. وفي خضم قراره وتجربته؛ أحسّ بونهوفر بضرورة الالتحاق بصفوف المقاومة ووضع حدّ لإبادة اليهود ودحر الفكر الآري ومواجهة الشرّ المدلهم في ألمانيا وأنحائها، واستبداله بنهج العدالة الاجتماعية، حتى لو تطلب الأمر القضاء الماديّ على هتلر، حيث رأى بونهوفر في المشاركة في التّخلص من هتلر ضرورة لإنقاذ الآلاف الذين سيعذّبون ويقتلون على يده. بعيداً عن تقييم قرار بونهوفر “المتطرف”، وبغضّ النظر إذا ما كان متماهياً مع التعاليم المسيحية الصّرفة، إلا أنه خرج من منطق حرفيّة الانصياع وطاعة الآيات الوارد في الكتاب المقدس والوصايا العشر التي تَنهى عن القتل، متجاوزاً ذلك إلى منطق التّضحية، والتحمّل، ونيل عوائد “النعمة المكلفة” كما وصفها في كتابه ثمن التلمذة – Nachfolgeلاحقا، والذي ترك فيه بصمته الروحية في اللاهوت المسيحي، إذ قدّم رؤيته عن معنى اتباع المسيح في زمنٍ يُهيمِنُ عليه الشّرّ والظّلم، وكان بمثابة مانيفستو لموقفه في مواجهة النازيّة. وقد وضّح الكُلفة لكونها تقتضي التّضحية بهدف مقاومة الشّرّ وإحداث تغيير جذريّ في الحياة، أسوة بالتعاليم الثّورية للسيّد المسيح، فجاءت مشاركته في محاولة اغتيال هتلر، رغم أنه لم يشارك مباشرة في تنفيذها، لكنه دفع ضريبة باهظة لقاء خياراته.

“من غزة.. بنطلعش”

ولعلّ النّعمة المُكلفةَ تلك، هي ذات الموقف التضحوي الذي اختاره الفلسطينيّون المسيحيّون في غزة، والتي صاغتها الجماعة بنِديّة المؤمن الوَرِع وبكامل الإصرار والترصّد، بقولهم: “منطلعش.. غزّة بلدنا.. هون ولدنا وهون ربينا.. وهاي كنيستنا: بنطلعش”. فبالرّغم من الوجع الذي يعتصر قلوبهم على الشهداء والجرحى من عائلاتهم، فقد سطّر مسيحيّو غزة موقفاً بطولياً ردّاً على القرار الإسرائيلي بإخلاء غزّة وترهيب الاحتلال المعنون بتهديد ووعيد “سنفتح عليكم أبواب الجحيم”، وذلك ضمن استمرار المنظومة الاستعمارية في مساعيها الإبادية، والتي يُستهدف فيها جميع الفلسطينيّين ومنهم المسيحيّون الذين استُشهد منهم أكثر من 4% في القطاع، حيث يتركّز تواجد كنائسهم، التي باتت ملاجئ لنحو 500 شخص، في حيّ الزيتون ومحيطه تحديداً.

وردّاً على العطش الإسرائيلي المدفوع بالانتقام نحو القتل والتهجير الجماعي المتعمّد؛ صدّر مسيحيو غزة الملتجئين في كنيستي القديس بورفيريوس للروم الأرثوذكس والعائلة المقدسة في غزة، موقفهم الرافض، عبر بيان مشترك في 26 من آب/ أغسطس 2025، مؤكدين صمودهم في المكان، الذي يعتبر جزءاً من خريطة الحج المسيحي، حيث أبَت الجماعة المؤمنة مع الكهنة والراهبات المتواجدين الانسلاخ عن انتمائهم الوطني والنزوح خارجاً، بالرّغم من «معاناة الكثيرين من الهزال وسوء التغذية» بسبب الإبادة الجارية في القطاع، لأكثر من عامين.

جناز 18 شهيداً من النازحين في كنيسة القديس بورفيريوس في غزة، بعد أن قصفت “إسرائيل” ثالث أقدم كنيسة في العالم إبان جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

لقد كانت فرصة الرّحيل واردة للنّجاة، وقد حاولت أكثر من بلد أوروبيّ استمالتهم وإغراءهم والتلويح لهم باللجوء، لكنّهم قرّروا حمْل صليبهم، ومواجهة ظلم الإبادة وتجلياتها، وقد خسروا أحبّتهم وبيوتهم وأعمالهم بالصّمود على الأرض، ومشاركتهم الواعية في آلام المسيح. وفي مقاربة ثنائية، حدث وأن سافر بونهوفر إلى أمريكا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، لكنه سرعان ما عاد إلى ألمانيا، لقناعته بضرورة عيش مِحْنَةَ شعبِه، وعدم الاكتفاء بالتّنظير لها عن بعد، بقوله: «لا يحقّ لي أن أشارك في إعادة بناء الحياة المسيحية في ألمانيا بعد الحرب، إن لم أكن مع شعبي في زمن المحنة». لم تنضب يوماً جهود بونهوفر في العمل من أجل تدويل فكره مع الكنائس العالمية وعزل أيديولوجية الكنيسة اللّوثريّة، التي اختارت حينها الخنوع والولاء لهتلر. وما إن عاد، حتى دفع ضريبة موقفه “المُكلف”، ومُنِعَ على إثرها من التدريس والنّشر والتنقل بحريّة.

الخلاص الجماعي المُكلف.. رحلة حمل الصليب

ليس هذا فحسب، فقد نال بونهوفر نصيبه من الاعتقال أيضا بتهمة مساعدة اليهود وتهريبهم إلى سويسرا والتآمر للقضاء على هتلر، إذ قضى في السّجن عاماً ونصف، واظب فيها على الخدمة الروحية، حتى أخْضَعَتْ وداعَتَهُ الفِطرية حرّاس السّجن، في تجلّ لعوائد “النعمة المكلفة”، إذ قاموا بتأثّر منه بتهريب رسائله وتأملاته العميقة التي كان يكتبها، والتي جُمعت لاحقاً في كتاب )رسائل وأوراق من السجن(Letters and Papers from Prison ، حيث خطّ فيها فكرة التحمّل السّلبي للشرّ أو السّكوت أمامه، ما عادَلَهُ بِجُرْمِ التّواطؤ مَعَه، وأنّه من واجب المؤمن التّصدي للشرّ حتى لو تطلّب الأمر التضحية، وهكذا كانت خُلاصة مشاركته في اغتيال هتلر. أُعدِمَ بونهوفر شنقاً في مُعسكر فلوسنبورغ إثر فشل “عملية فالكيري“، ما دفع المجنون للانتقام بعنف، فاعتقل أكثر من 7 آلاف شخص، أعْدَمَ نحو 5 آلاف منهم، ومن بينهم اللّاهوتي الوديع، وقد كان عمره حينها 39 عاماً، قبل أسابيع قليلة من انهيار الرايخ الثالث وانتحار هتلر! وقد تجلّى إيمان بونهوفر المسيحيّ وشهادته في كلماته الأخيرة التي أدلى بها لأحد السجناء، قائلاً: هذه هي النهاية بالنسبة لي، لكنها البداية للحياة.”

ديتريش بونهوفر في ساحة سجن تيغيل/ برلين

وعلى ذات المنوال، يرفض مسيحيو غزة الامتثال إلى “النّعمة الرخيصة” أو السّهلة، تلك الممنوحة لهم دون تضحية، وهي نظير غفرانٍ بلا توبة، والمتمثلة في الخلاص الفردي أو النجاة الشخصية بالهروب من الصّليب، أو الاستجابة إلى أوامر الإخلاء في سجن غزة الكبير، ذاهبين صوب الخيار المُكلِف، حتى لو كان يحمل حَتْفَهُم، ما يتطلب تضحية وإماتة للذّات بغية البقاء في أرضهم مع شعبهم، رغم الخطر المحدق بهم. يؤكد بونهوفر على أهمية ترجمة الإيمان إلى موقف عمليّ في مواجهة الشرّ، رابطاً بين طاعة التّلميذ وحمل الصّليب عن وعي، وإقبال على النّعمة التي ستغيّر الحياة، تماما مثل القرار الجمعيّ لمسيحيي غزة بحمْلِ صليب شعْبِهِم، لا الهروب إلى أمْنِهِم الشخصي، وهي النتيجة الحتمية للتّلمذة، كوننا أبناء المسيح الذي نطيعه ونلتقي معه بآلامه، وكأنهم متمثّلين بديتريش، ومسطّرين بذلك: بونهوفرات غزة.

ماريا فون فيدماير، خطيبة ديتريش بونهوفر، الذي كتب لها رسائل سرّاً وهرّبها خلال فترة سجنه من عام 1943 – 1945

غياب خطة كنسية عالمية موحدة لمواجهة الإبادة

بالرغم من أن هناك بعض الكنائس الغربية التي تقدّمت صَوْلَةً مِغوارة لنصرة فلسطين، أكثر من معظم الدول العربية والإسلامية جمعاء، إلا أن موقفها لم يكن نتاج نسق جمْعي موحّد، بل قراراً فردياً نابعاً من نضج عميق، ومعرفة بمظلومية الشعب الفلسطيني على مرّ العقود. بينما عامّة، يشعر الفلسطينيون المسيحيون، وبالأخص الغزيّون، بخيبة أمل كبيرة من الكنيسة الغربية التي آثرت تفضيل مصالحها الدبلوماسيّة على الامتثال لواجبها الديني والأخلاقي في مواجهة الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” في قطاع غزة، وباتت تُشعِرهم وكأنهم زوائد بشرية على الكوكب أو “غير مرئيين” تجاه شركائهم في المسيح والإنسانية، الذين يتجاهلون مِحْنتهم منذ أكثر من 77 سنة متواصلة.

فبدلاً من أن يتحمّل الجَسَدُ المسيحيّ العالميّ مسؤوليته تجاه الكنيسة الجريحة في فلسطين، يستمرّ تقاعس الكنائس العالميّة عن أداء الدور المناط بها، والشّهادة للحقّ، إذ تلتزم معظمها الصّمت أو يكتفي بعضها الآخر ببيانات شاحبة، ولغة هزيلة تفتقرُ إلى الشّجاعة والموقف الأخلاقيّ الصّارم، فيؤثرون الاستنكار الخجول، بحيث لا يتجاوز شجْبهم التّعبير عن الغضب، بل وتُلازِمُ عباراتهم دعوات باهتة إلى السّلام غير المقرون بالعمل الجادّ نحوه عبر تحقيق العدالة، والإرادة الرّصينة نحو تغيير الظّلم القائم.

نعم، لقد فشلت المنظومة الدولية، القانونية والحقوقية، التي طالما آمن بها الفلسطينيون، فشلًا ذريعا في الحدّ الأدنى من الاستجابة الإنسانية، وسقطت كل آمال الغزّيين، وبقيت الجريمة مستمرة. ما سقط فعلاً هو العقد الاجتماعي الذي صاغه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، وأخضع له سكان المعمورة. وإن كل عنتريات مجلس الأمن لا تساوي شيئا، طالما لم يتحرر مجلس الأمن من سطوة الفيتو الأميريكي الذي يقوّض دوره المُفتَرَض في حفظ السلم والأمن الدوليين، ووضع حد للحروب والإبادة.

الصّمت مشاركة في الجريمة

إسناداً لأهلهم ووطنهم، وانحيازاً لنُصْرَةِ الحقّ؛ نَظّمَ علماء لاهوت فلسطينيّون، بشجاعة بونهوفر، مؤتمراً بعنوان “الكنيسة عند مفترق الطّرق” في كنيسة باركفيو المجتمعيّة في شيكاغو، مُتَحدّيْن المسيحيّة الصّهيونيّة في خِطابٍ دعَوْا فيه المسيحيّين الأمريكيّين إلى التّوبة، مُطالبينهم بالتّحرُّك من منطق التّعاطف السّلبي إلى العمل ضدَّ الإبادة في القطاع، على قاعدة “إذا كنت في الولايات المُتّحدة ولا تفعل شيئا، فأنت متواطئ”.

القس د. منذر اسحق

كما نادَى هؤلاء أيضاً أن الإبادة المستمرة في غزة مموّلة من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، والمطلوب من الكنيسة ألا تشيدَ بمشروعٍ سياسيّ، مُتجاهلةً أحفاد المسيح من الفلسطينيّين أصحاب الأرض التي وُلِدَ وصُلِبَ ومات وقام فيها السيّد المسيح. وقد دعا المؤتمرُ الكنائسَ الغربية إلى التّوبة الحقيقيّة عن الصّمت الذي مارسوه، وبالتالي إلى ممارسة “النّعمة المُكلفة” التي تحدّث عنها بونهوفر، والتي تَتَطَلّبُ فعلاً مضاداً لدحض سكوتهم السابق.

وكما دافع بونهوفر عن اليهود في الإبادة التي طالتهم؛ انحاز المؤتمر للضّمير الإنسانيّ، مُذكّراً بأن الدّم المسفوك في غزة ذو قيمة ثمينة ككلّ دم إنسانيّ، إذ على كلّ مؤمِن أن يرى صورة الله المُقدّسة في البشريّة جمعاء. كما ذكّر البيان أنّ يسوع لا يدعونا فقط إلى الحزن مع الباكين (رومية 12:15)، بل أن نكون عاملين بالكلمة لمواجهة الظّلم أيضاً (يعقوب 1:22 ). وبذلك، وقّع العشرات من القادة المسيحييّن الأمريكيّين والمنظّمات الدّينيّة إعلاناً يرفض الصّهيونيّة المسيحيّة، ويدعو فيه إلى وقفٍ فوريّ لإطلاق النّار.

مصداقيّة الشّهادة المسيحيّة على المحكّ

واجَهَ الفلسطينيّون المسيحيّون، أمثال القس د. منذر إسحق، د. دانيال بنورة، د. أنطون دعيق، د. لمى منصور، بشجاعة الواثق، المسيحية الصّهيونيّة وسرديّتها المغلوطة والمحرّفة الّتي حَوّلَت الكتاب المُقدّس إلى أداةِ قمع بدلاً من التَّحرير، برّرت من خلالها الاحتلال والإبادة والتَّهجير، حيث قال إسحق: «على الرّغم من الأدلّة الدّامغة، لا تزال هذه الإبادة الجماعيّة مدعومةً ومُبرَّرةً، بل وحتّى مُنكرةً من قِبَلِ البعض في الكنيسة»، حيث أطلق الأبطال صرخة حازمة: «مصداقيّة الشّهادة المسيحيّة على المحكّ»، تماماً مثلما دافع بونهوفر عن الكنيسة التي تتبع المسيح لا الزعيم، وبذات الإقدام والصلابة، ساءل اسحق الجمع في المؤتمر، موضحاً «إن أكبر مشكلةٍ في الصهيونيّة المسيحيّة أنه لا يمكن العثور فيها على يسوع المسيح».

وفي ذات السياق، أوضح منظّمو المؤتمر أن المسيحيّة الصّهيونيّة تحاول جاهدةً ربط “إسرائيل” التّوراتيّة بالدّولة الحديثة، مشدّدين أن ذلك «واحدة من أكبر الفضائح اللّاهوتيّة»، بل وتقوم بتغذيتها عبر أبواقها لتبرير الإبادة، مستعينين بأفكار من التّاريخ التوراتيّ، مثل “الأرض الموعودة” والشعب المُختار”، وهي ذات المفردات التي تستخدمها التجمُّعات المسيحيّة الصّهيونيّة مثل “مسيحيّون مُتّحدون من أجل إسرائيل”- (CUFI)، الّتي يزيد عدد أعضائها عن 10 ملايين شخصٍ.

مبادرة شبكة “كهنة ضد الإبادة” في إيطاليا

ولعلّ أصوات وثيقة «وقفة حق»- كايروس فلسطين قد صدحت في الأرجاء، ووصلت أصحاب الضمائر الحيّة في روما؛ فأُطْلِقَت مؤخراً مبادرةً جماعيّة هامّة من أكثر من 1000 كاهن وأسقف من إيطاليا وأماكن أخرى في العالم، بعنوان: ” كهنة ضد الإبادة“. تنبع أهمية المبادرة بأنها أدرجت جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة في سياقها التاريخي الأوسع، أي المأساة الفلسطينية ومصفوفة الجرائم الإسرائيلية التي ما انفكت تحدث منذ نكبة 1948، مؤكدة أن احتلال فلسطين نتاج بُنية استعماريّة ممتدّة عبر عقود من نظام الفصل العنصريّ المُستمر والعنفِ المُمْنهج منذ أكثر من 70 عامًا في فلسطين المحتلة، وأنّ السابع من أكتوبر هو الشّمّاعة فقط لارتكاب المزيد من المعاصي، والمصوّغ الذي يستخدمه الاحتلال للإمعان في رذائله الوضيعة، وكأن تاريخ القضية قد بدأ لتوّه.

وتأثّرا بمبادرة كايروس فلسطين التي لا تكتفي بالصّمت والدّعاء فقط، بل تدعو دوماً إلى ترجمة المواقف إلى أعمال أكثر وضوحا وجرأْة، فقد ربطت مبادرة ” كهنة ضد الإبادة” بين استتباب السّلام وإحقاق العدالة، بتفكيك أدوات الاحتلال، رافضةً احتكارَ الدّين لمصلحة سلطاتٍ سياسيّةٍ ظالمة.

الصّهيونيّة المسيحيّة هي معاداة السامية الجديدة

وقد حِيْكَت المبادرة في روما بحكمة الحيّات (مت 10: 16)، لأنها عرّجت باستباق على هجوم اللّوبي الصهيوني وتصنيفه إياها وأي مبادرة تنتقد “إسرائيل” “باللاسامية” لغاية تقزيمها ووضع حدّ لثقلها، مؤكدة بأن البيان ينتقد القرارات السياسية الإسرائيلية، إذا ما أراد أحد التلويح بتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية- IHRA، ما يدل على الوعي التحرري الذي وصل له الكهنة الذين ثبّتوا ببساطة الحمائم (مت 10: 16) أن لا تعايش مع الفكر الصهيوني، الذي يُعلي من حساب جماعة على أخرى. فإذا ما أردنا الغوص في الفكر الصهيوني العنصري، فسيتجلّى أصلاً بأنه هو ذاته مُعادٍ للسّامية[1]، حيث يتنصّل منه اليوم آلاف اليهود الشجعان الذين يصرخون في المظاهرات التي تجوب المعمورة: كفى للإبادة، مبرّئين أنفسهم منها ومردّدين: “ليس باسمنا”- Not in our name.

فحتى المؤرخ الإسرائيلي د. عاموس جولدبيرغ، المتخصص في دراسات المحرقة (الهولوكوست)، قد جزم في مقالته أن ما يحصل في غزة إبادة، مؤكداً أنه بعد إدراك ذلك، لا يمكن للمرء أن يبقى صامتاً- منوّها أنه ليس فخوراً من نفسه للوصول لذات القناعة متأخراً، أي بعد مضيّ ستة شهور من الإبادة. كما أنه ذهب إلى أبعد من ذلك بحزم، قائلاً: «أن انتقاد “إسرائيل” بأنها دولة فصل عنصري ليس اتهاماً لاسامياً، بل إجمالاً للحقيقة برمّتها!»

وبهذا، نستذكر أيضا بسالة وإقدام بونهوفر، الذي شكّل حالة دفاعية ومكافحة للاسامية، حيث باتت كتاباته دعوة للمثول بشجاعة للحقّ والدفاع عنه بشراسة، لاسيّما وأنه رمزٌ للمقاومة المسيحية ضد الطغيان، ومثالٌ على التزام الإيمان بالفعل العملي في مواجهة الظلم، فجاءت خلاصة أعماله بمثابة شهادة إيمان للشباب، ودعوة للتمرّد على الخضوع الأعمى للسلطة النازية والواقع الظلامي الذي ينشر لوثة العنصرية والكراهية المبنيّة على سياسات الهوية.

وبالرغم من أن بونهوفر جاء قبل ما يُعرَف بنشوء لاهوت التحرير بعقدين من الزمان، لكن انحيازه لليهود والمضطهدين- حسبما جاء في الكتاب المقدس- ومقاومته لظلم وعنصريّة النظام النازي واستهدافه المستفيض في الكتابة دوماً عن “المسيحية غير الدينية، أو [المسيحيّة] الأخلاقية”[2]، إضافة لجلّ ما كتبه من عمق لاهوتي مقاوم، أسوة بأعمال السيد المسيح، جعلت منه بمثابة الأب الروحي للاهوت التحرير، الذي تشكلّ ونما على ضوء الظلم الاجتماعي والسياسي في أمريكا الجنوبية في ستينيّات القرن الماضي.

الانخراط في “النعمة المكلفة”

تُجسّد جميع المباردات أعلاه التزامات عالمية أخلاقية موجّهة نحو التّوبة، عملًا من أجل شهادتنا المسيحية. ولربما وصلنا إلى زمان يتوجب فيه على جميع المبادرات أن تتوحّد وتكون منفتحة وجامعة بين رجال الدين والعلمانيين والمجتمع المدني كافة، مخاطبة الضمير الإنساني ككل، كما كان يكتب بونهوفر، بصبغة غير مسيحية، وإنما مُتحليّة بثوب الأخلاق، أملاً بممارسة “النعمة المكلفة” مهما كلّف الأمر.

وبالرغم من قتامة الواقع بدليل استمرار جريمة الإبادة الجماعية في القطاع، إلا أنه يجدر بنا إبراز بعض الاستثناءات المشرقة التي بدأت استعادة وعيها، متصدية للجور والقهر ومستعدة للتضحية ودفع ضريبة قرارها، كدعوة الكنيسة الميثوديست الأفريقية الأسقفية وقف الدعم الأمريكي لإسرائيل، وإقدام بعض آخر على سحب الاستثمارات من السندات الإسرائيلية، وإدانة واضحة بلغة واثقة بأن الحاصل هو “إبادة في غزة” مع الإشعار بمسؤولية الدول الكبرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وشبكات الدعم العالمية الأخرى، ناهيك عن توقيع قساوسة أمريكيين على عريضة تطالب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بوقف إطلاق النار، وقطع تمويل الاحتلال وتصدير الأسلحة له، ورفع الغطاء السياسي عنه، بما يُفضي إلى عزله دوليا وجعله منبوذاً على الساحة العالمية.

لقد انتهى وقت إبداء القلق! وعلى رجاء استدامة اليقظة عالمياً ومجابهة الواقع بانتفاضة وعي يوقف الإبادة، فكلّ فعل رافض يحمل في طيّاته ثمناً هو مبارك، سيّما الفعل المقاوم الملتزم بالمقاطعة بكافة أشكالها، وعلى رأسها الاقتصادية والدبلوماسية، والعمل المقترن بالتحرّك الشعبي والقانوني والدولي، والمُستعدّ دوماً للاشتباك الجمعي. ولعلّ من أبرز النماذج الجمْعيّة التي تُجسّد ممارسة “النعمة المكلفة”، هو ما تقوم به “أساطيل الصمود” التي تسعى بشجاعة إلى كسر الحصار عن غزة، بقيادة أبطال مستعدّين لدفع الثمن على متنها. وإلى جانبها، تبرز المبادرة الجريئة التي أُطلقت من الجنوب العالمي عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحديدًا من رئيس جمهورية كولومبيا، غوستافو بيترو، تحت عنوان “الاتحاد من أجل السلام“، حيث تشكّل هذه المبادرة فعلًا جماعياً متقدّماً يهدف إلى إيقاف المقتلة، وتعبئة المجتمع الدولي والشعوب لتحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية في حماية الفلسطينيين. كما تُعدّ آلية ذكية لتجاوز شلل مجلس الأمن، والفيتو الأمريكي الذي لا يزال يمنح إسرائيل غطاءً سياسياً وحصانة من المساءلة. إنّ مَن يدعمون هذه التحركات الخطرة، يَعَوْنَ تماماً حجم ثقل التضحية المطلوبة للسباحة عكس التيار العالمي الرأسمالي الاستعماري المتوجّس، والثمن المقابل، ومع ذلك “يصعدون إلى حتْفهم باسمين“.

تحرير الكنيسة.. واستعادة الملاذ الآمن

يتعيّن على أتباع السيد المسيح وتلاميذه الحقيقيين من ورثة فكره وقلبه، اليوم، أن يعملوا على تحرير الكنيسة العالمية من الخوف، ومن سطوة السياسة عليها، واستعادة دورها الأصلي كملاذ آمن وملجأ للعدالة. وفي هذا السياق، نستحضر التجربة الملهمة في عهد كبير أساقفة جنوب أفريقيا ديزموند توتو، حين تحوّلت الكاتدرائية إلى فضاء مفتوح للجميع، من مختلف الأجناس والانتماءات. ففي ذروة النضال ضد الفصل العنصري، فتحت “كاتدرائية الشعب” أبوابها، وكانت ملاذاً آمناً احتمى فيها العشرات عشية ملاحقة الشرطة لمسيرة تجاوزت 30 ألف مشارك ضد نظام الفصل العنصري، لتصبح الكنيسة رمزاً من رموز العدالة الاجتماعية والمقاومة الأخلاقية.

واليوم، يتواصل هذا الإرث في قلب غزة. فالمسيحيون الغزّيون يلوذون بالكنيسة ملجأ، متشبثين بها فعلاً نبويّاً حقّاً، وصورة حيّة للصمود والثبات. حتى عند سماع دويّ القنابل يخترق جدرانها أثناء القداس الإلهي، تبقى جماعة المؤمنين متماسكة بصلاتها لا تتزحزح، ومتجّذرة في إيمانها، رافضةً الإخلاء والانصياع للقرار الإسرائيلي.

لقد باتت الكنيسة، مرة أخرى، تمثل امتداداً مدهشاً لنضالات الشعوب في وجه القمع. فالرموز الحيّة — مثل ديتريش بونهوفر — لا تموت، بل تتجدّد، وتعيد بثّ خيوط الأمل والمقاومة عبر الأجيال.

واليوم، في غزة المحاصَرة، تُعيد الكنيسة تشكيل ذاتها من جديد: صلوات تحت القصف، مواقف أخلاقية لا تتراجع، وصمود لا ينكسر. المسيحيون الغزّيون لا يرفعون فقط رموز الإيمان، بل يجسّدونها. إنهم يعيدون تعريف الشهادة المسيحية في زمن الإبادة، ويُظهرون وجهاً آخر للنعمة المكلفة: وجهاً لا يخشى أن ينزف، أو أن يدفع الثمن. لقد أصبحوا بشجاعتهم، وصمودهم، ورفضهم للصمت: بونهوفرات هذا العصر.. بونهوفرات غزة.

*هند شريدة: كاتبة وصحفية مقدسيّة، تكتب في الشأن النقابي، وأوضاع الأسرى السياسيين وحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة. حاصلة على درجة الماجستير في الدراسات الدولية، ودرجة البكالوريوس في الصحافة المكتوبة/ العلوم السياسية من جامعة بيرزيت. عضو مؤسس في مبادرة مهد المشرق، وهي مبادرة عربية فلسطينية مسيحية، تؤكد على الهوية العروبية الفلسطينية الوطنية والنضالية لمسيحيي المشرق، كمكوّن عضوي متجذر وأصيل من نسيج وهوية العالم العربي، وعمقه الحضاري المسيحي – الإسلامي.


[1] يزعم الفكر الصهيوني أنه يمثل اليهود ويحميهم ويختزلهم في مشروعه، لكنه في جوهره فكر عنصري ومعادٍ لليهود أنفسهم (لاساميّ). فهو يقوم على مفاهيم التفوق العرقي والديني، من خلال تزييف المفاهيم التوراتية، متجاهلًا حقوق السكان الأصليين في فلسطين. في حقيقته، يمثل الفكر الصهيوني أيديولوجية إقصائية وخطيرة، تتجسد في مشروع استيطاني استعماري، قومي، سياسي، علماني، وعسكري. وقد أدى ذلك إلى تشويه صورة اليهودية كديانة، وخلق خلطًا بين “اليهودي” و”الصهيوني”، رغم أن ليس كل يهودي صهيونيًا، ولا كل صهيوني يهوديًا، الأمر الذي أساء لليهودية وأضر بصورتها عالميًا.

والجدير ذكره أن هناك يهودًا حول العالم يقفون بوضوح ضد الصهيونية، بل يؤمنون بحق الفلسطينيين الكامل في الحرية، وإنهاء الاحتلال، ونيل كامل حقوقهم السياسية والإنسانية دون انتقاص، وعلى رأسها حقّ العودة.

[2] قدّم بونهوفر تصورًا مختلفًا جذريًا للمسيحية، ليس فقط كمجموعة عقائد دينية، بل كطريقة وجود وموقف مسؤول في العالم. يدعو بونهوفر إلى فهم الدين بوصفه دعوة أخلاقية وكأسلوب حياة، وليس مجرد مجموعة من المعتقدات أو الطقوس التي يجب تكريسها وربطها بمفاهيم وقصص وآيات من الكتاب المقدس على الدوام. ومن هذا المنطلق، سعى إلى إيجاد أرضية أخلاقية مشتركة تشمل حتى أولئك الذين لا يعتنقون أي دين، انطلاقًا من قناعة بأن الإيمان الحقيقي يجب أن يكون حيًّا وفاعلًا في واقع الإنسان، لا محصورًا في إطار ديني مؤسسي.

تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment