
السابق الكنيسةُ مُطالبةٌ بتطبيقِ مبدأ الحوكمةِ والشّفافيّةِ ورفضِ الاتجارِ بالامتيازات- من نشرة ملح الأرض رقم 189
كتبت: هند الشريدة لمؤسسة الدراسات الفلسطينية
قداسة البابا ليون الرابع عشر الجزيل الوقار والاحترام،
سلام المحبة التي تجمع ولا تفرّق.
أنا الصحافية هند شريدة، أكتب إليك من فلسطين المحتلة، من الأرض التي وُلد ومات وقام فيها السيد المسيح، حاملةً إليك نداء استغاثة من قلب الجلجلة التي لا يزال يُصلب عليها شعبٌ كامل.
منذ ما يقارب العامين، ومليونا فلسطيني في غزة يتعرضون لإبادة جماعية ممنهجة من جانب الاحتلال الإسرائيلي، إبادة تفتك بالمدنيين وتحاصر كل أشكال الحياة هناك، إذ سقط أكثر من 60 ألف شهيد وآلاف الجرحى. ولم يسلم فيها شيء: لا مساكن ولا كنائس ومساجد، لا مدارس وجامعات، لا مستشفيات ولا مقابر. حتى بنوك الأجنّة لم تنجُ، معلنةً الموت لكل حياة فلسطينية محتملة.
فما يجري اليوم، تجويعٌ قسري من صُنع سياسة إسرائيلية مملوءة بالكراهية العمياء، تحوّلت إلى جريمة تتفاقم يومياً، ولا تنفكّ عن استهداف الرجال والنساء، والأطفال والشيوخ.
في اليوم الـ 660 منذ بدء الإبادة، والغزيّون معذّبو الأرض يقاومون بجلدهم، وصمودهم على الأرض. إذ إن ماكينة القتل الإسرائيلية جاهزة لتعقّب الفلسطيني والفتك به بحسب الهوية، وهويتنا جميعاً – مسلمين ومسيحيين- فلسطينية. فقد استُشهد أكثر من 4% من المكوّن المسيحي في غزة، على الرغم من احتمائهم بالكنائس التي تحوّلت إلى ملاجئ. ولا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بقتل الأجساد فحسب، بل يسعى أيضاً لمحو الوجود المسيحي الذي يرفض التهجير، ويحمل صليب الصمود في غزة، فيحاول استهدافه من أجل تفريغه واقتلاعه بشتى الطرق من جذوره الروحية، مُقصياً غزة عن أرجاء المعمورة، بعد أن كانت جزءاً لا يتجزأ من خارطة الحجّ المسيحي.
إنها سياسة التفرّد بغزة، وممارسة التطهير العرقي باستمرار من أجل إفراغها من الوجود الفلسطيني. وعلى الرغم من الخطط الشريرة، فقد صمد الغزيّون، ومن بينهم أبناء الكنيسة، بل أظهروا أيضاً أن الإيمان في غزة ليس طقساً عابراً، إنما هو قيامة يومية، يعيشونها على لحمهم كنهج حياة في وجه الظلام.
وبين مَن استُشهد ومَن أُسر في معسكرات الاعتقال السرية، وتعرّض لأصناف التعذيب على يد جيشٍ تسكنه الكراهية والعنصرية، هناك مَن نجا من القذائف والصواريخ، لكنه يتضوّر جوعاً بين مصائد لا إنسانية، فقد بات أهل غزة كالأشباح، يعانون جرّاء شفافية العظام وسط التجويع، ويسيرون هائمين وسط الخراب في شوارع المدينة المدمّرة، يفتّشون عن بقايا طحين، ويتساقطون واحداً تلو الآخر جرّاء الجفاف والجوع، في مجاعة مصطنعة؛ صنعتها منظومة استعمارية إحلالية، وقرّرت بكامل الإصرار والترصّد، وعلى مرأى من العالم أجمع، وأمام الكاميرات وبتصريحات رسمية، إحكام الخناق على غزة.
وفي سياق ذلك، يعاني الغزيّون جرّاء الخذلان؛ خذلان كل مَن راهنوا عليه يوماً. لقد فقدوا الثقة في كل شيء آمنوا به في يوم من الأيام، في القانون الدولي، وفي كل شيء لم يستطع حتى الآن وقف شلال الدم وإرساء العدالة لهم. بعضهم قال لي: ربما صلواتنا لا تصل إلى السماء المشوّشة أصلاً بفعل الصواريخ والزنّانة التي لا تفارق كبدها ليل نهار. وبعضهم الآخر أطلق صرخات ألم تجاوزت منطق مناجاة الله، إذ تراه يلملم أشلاء أطفاله الممزقة بين الخيام. والبكاء حارق من لدن الجرح، و يتجلّى إحساس عميق بالوحدة والتخلّي، كما بكى السيد المسيح على الصليب، صارخاً: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟”
وقال صديق آخر يمتهن المحاماة إنه اضطر إلى حرق كتب القانون للاستدفاء عليها في الشتاء الماضي، بعد أزمة الوقود، وشحّ الأخشاب وغلاء كل شيء. لقد وصل صديقي المحامي إلى قناعة أن القانون لن يحفظ حياته ولا حياة أولاده، فكان الأجدى أن يُحكّم عقله وسط صراع البقاء الذي يعيشه، والمفاضلة بين كتبه المرصوصة على الرفّ المكسور في مكتبته المتشظية، وتدفئة أطفاله، وقد قرّر أن يختار الثانية، فقد اختار النجاة حتى إشعار آخر.
حتى البحر؛ ملاذ الغزيين الغربي، تجد القنّاصة الإسرائيليون يتمركزون على ساحله، مدعّمين بالكوادكوبتر المبرمجة بالذكاء الاصطناعي من أجل استهداف أي صياد يحاول اصطياد قوت يومه من بطن البحر، وهو هدية الرب المجانية. لكن حتى هذا أصبح ممنوعاً عليهم.
سيكتب التاريخ يوماً أن إبادةً جماعية وقعت على مرأى من العالم الذي شاهدها، ولم يجرؤ على إدانة القاتل ومحاسبته. وسيكتب أيضاً أن الشاحنات تكدّست على المعابر، على بُعد مرمى حجر من غزة، وتم إغلاقها خوفاً من غضب إسرائيل. وأن سفناً شجاعة، كأسطول “الضمير” و”مادلين”، اللّذين حاولا كسر الحصار، فتم تطويقهما واعتقال طواقمهما، ولم يُسمح لهما بالوصول إلى شواطئ غزة.
لم يتبقَّ شيء سوى الرجاء… فوحده الذي يجعلنا نحن الفلسطينيين صامدين ومتشبّثين بالحياة. وعلى هذا الرجاء الذي يلفّني، أرسل لك هذه الرسالة.
قداسة البابا،
إنك تعرف، من خدمتك السابقة في البيرو، معنى جوع الأجساد وصوت قرقعة الأمعاء الخاوية. وقد شهدتَ اللاجئين، واستقبلتهم في الكنائس التي فتحتها لهم كملاجئ ومطابخ شعبية، وكيف وقفتَ ضد الاستبداد والظلم السياسي، حين طالبتَ ألبيرتو فوجيموري بالاعتذار، وانحزتَ إلى الشعب؛ مصدر الشرعية الحقيقي.
وعلى الرغم من الألم والدمار والتجويع القائم، فإن قلوبنا لا تزال متشبثة بالرجاء القائم من بين الأموات. لذلك ندعوك اليوم، وكلنا إيمان ورجاء، بأن تخرج بوسيلة أُخرى، بعيداً عن البيانات مجهولة الفاعل (مرتكب الجرائم) والدعوات من شرفتك، وأن تتوجه لصناعة الفعل النبوي في زمن رديء، لم يعد يسمع نداءاتك، وقرّر أن يغلق أذنيه لكي لا يسمع صوت العدالة والسلام. ندعوك لكي تعمل بوصية السيد المسيح:
“لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. 36 عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ” (إنجيل متى 25: 35-36).
ندعوك، اقتداءً بتعاليم السيد المسيح وأُسوة بأعماله الشجاعة، وبصفتك رأس الكنيسة والكرسي الرسولي، من معقل الكاتدرائية الباباوية، كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان، التي بُنيت بدم القديس الصخرة الشهيد بطرس الرسول، أن تُبحر في فلوتيلا “العدالة” مع لفيف من الكرادلة ورجال الدين من مختلف الديانات، وجمعٍ من الحقوقيين وأصحاب الضمائر الحيّة، وأن تكسروا الحصار عن غزة.
لن أعدك بالسلامة، فالسلطة القائمة بالاحتلال لا تسمح لأحد بإغاثة الفلسطينيين. لكن المعادلة صعبة: فإما أن نكون أو لا نكون، وما يتطلّب شجاعة استثنائية وفعلاً نبوياً عميقاً، نعوّل فيه عليك.
تعال، جرّب. استثمر في حصانتك الدولية، وحظوة جنسيتك الأميركية، علّها تسعفنا في كسر الحصار، وتفضح في قدومك ما ارتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحق أساطيل الإغاثة السابقة، وما فعله اليوم مع سفينة “حنظلة”.
قالها السيد المسيح على جبل التطويبات:
“طوبى لفاعلي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون.”
ونحن ندعوك باسمه، وباسم العائلة المقدسة التي مرّت في طريقها إلى مصر عبر أرض غزة، أن تُغيث الغزيين، وتكسر هذا الحصار الجائر، وأن تصل غزة على متن سفينة محمّلة بالغذاء والدواء، وحليب الأطفال، والأطراف الصناعية.
أرجو ألا تردّنا خائبين، فربما يكون كسر سفينتك بداية اجتراح لمعجزة، ويكون في مجيئك بركة تُطلَق بعدها قوافل الرّحمة. لعلّك تُشكّل معجزة الأرغفة والسّمكتين من جديد، فتُطعم الجائعين في غزة، وتُسند صمودهم الأسطوري.
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!