السابق مدينة القدس من منظور مسيحييّ الأرض المُقدَّسة.
رابط المقال: https://milhilard.org/h1az
تاريخ النشر: نوفمبر 5, 2024 7:58 م
رابط المقال: https://milhilard.org/h1az
الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى، دكتور في لاهوت الكتاب المُقدَّس وباحث في الدّراسات المسيحيّة.
في أمريكا، كانت العقيدة الّتي ظهرت، مختلفةً في بعض النّواحي، عن سابقاتها الأوروبيّة. بينما شَهِدَ التّاريخ الأوروبيّ حركاتٍ مختلفةً ذات إيديولوجيّاتٍ أَلفيّةٍ ورؤيويّةٍ أو مسيحانيّة، كانت هذه الحركات في الأساس مناصرةً للخلاص من حيث إنّها ركَّزت على تحرير المجتمعات الّتي كانت جزءاً منها. مع المسيحيّة الصهيونيّة الأمريكيّة، لم يكن التّركيز، في المقام الأوّل، على تطلّعات الأُمّة الأصليّة، بل على التطلّعات القوميّة اليهوديّة. بعبارةٍ أخرى، توصَّل غير اليهود إلى الاعتقاد بأنّ تحرير اليهود بطريقةٍ ما محدَّدةٍ مسبقاً سيكون الطّريق إلى خلاصهم وخلاص البشريّة جمعاء. من المحتمل جدّاً أنْ تكون هذه هي الحالة الوحيدة المُسجَّلة، حيث يكون تحقيق مصير أُمّةٍ أخرى هو مركز إيديولوجيّةٍ شعبيّةٍ قوميّةٍ واسعة النّطاق.
علاوةً على ذلك، في المذاهب النبويّة الأوروبيّة، إمّا لعب اليهود دوراً غير منطقيٍّ أو نُظِرَ إليهم من منظورٍ سلبيّ. كان من المقرَّر تحرير القدس من اليهود وليس من أجلهم. في بعض الحالات، كان يُنظَر إلى انقراضهم القوميّ من خلال التحوُّل على أنّه خطوةٌ في تحقيق الإنجاز الأَلفيّ. على النقيض من ذلك، فإنّ المسيحيّة الصهيونيّة هي فلسفةٌ إيديولوجيّة. لا يلعب اليهود دوراً مركزيّاً فحسب، بل دورٌ رفيع.
إنّهم ليسوا مجرّد منشقِّين دينيّين يجب التّسامح معهم، لكنّهم موضع إعجابٍ كشعبٍ يمثِّل وجودُه القوميّ بحدّ ذاته حدثاً رئيسيّاً في تاريخ البشريّة. يبدو الأمر كما لو أنَّ الخلق الأصليّ للأُمّة اليهوديّة (العهد الإبراهيميّ) وإعادة تكوين تلك الأُمّة (إسرائيل الحديثة) هي بطريقةٍ ما إشاراتٌ إرشاديّةٌ تقود البشريّة عبر الزّمن إلى مصيرٍ ينكشف. بينما ركَّزتِ الحركات الأخرى المؤيِّدة لليهود على تحريرهم من الاضطهاد الشخصيّ أو الدينيّ، تُركِّز المسيحيّة الصهيونيّة على تحرير اليهود واستعادتهم كأُمّة. من المبادئ الأساسيّة للمسيحيّة الصهيونيّة أنّها إلى أن تتحرَّر الأُمّة اليهوديّة، ستستمرّ البشريّة في تكرار أخطاء التّاريخ الّذي لا ينتهي.
من المبادئ الأساسيّة للمسيحيّة الصهيونيّة أنّها إلى أن تتحرَّر الأُمّة اليهوديّة، ستستمرّ البشريّة في تكرار أخطاء التّاريخ الّذي لا ينتهي.
هناك اثنان من الأمريكيّين المُعاصرين -هال ليندسي (Hal Lindsey) والقسّ جيري فالويل (Jerry Falwell)- يمكن لآرائهما أنْ تكون بمثابة نماذج لكيفيّة تسويق المسيحيّة الصهيونيّة نفسها في بعض الأحيان كان كتاب ليندسي، «كوكب الأرض المتأخّر العظيم» -The Late Great Planet Earth – (١٩٧٠)، العمل غير الخياليّ الأكثر مبيعاً في السبعينيّات، الّذي أوجز بالتّفصيل تفسيره للأيّام الأخيرة والدّور الّذي ستلعبه إسرائيل في تلك الأحداث.
نموذج ليندسي: تمثِّل كتاباته تفسيراً متطرِّفاً للنصوص النبويّة. يقبل العديد من المسيحيّين أنّ يسوع سيعود إلى الأرض في المجيء الثّاني، وأنّ الوقت كما نعرفه سينتهي، وأنّ سلام الله سيُنهي عصر الخطأ البشريّ الّذي رأيناه حتّى الآن. أبعد من ذلك، هناك اتّفاقٌ ضئيلٌ حول كيفيّة حدوث هذه الأشياء بالضّبط وبأيّ تسلسل. يدّعي ليندسي أنّ القراءة المتأنِّية للكتاب المُقدَّس تكشف عن سيناريو محدَّدٍ للأحداث. بالنّسبة له، إنّ العلامة النبويّة الكبرى في الكتاب المُقدَّس هي أنّ إسرائيل يجب أن تكون أُمّةً مرّةً أخرى في أرض أجدادها. وبمجرّد حدوث ذلك، بدأنا «العدّ التنازليّ»، وهو تواتر للأحداث الّتي حدَّدها بوضوحٍ مختلف الأنبياء على مرّ القرون. ستركِّز هذه الأحداث على صراعٍ عالميٍّ من أجل السّيطرة على الشّرق الأوسط. سينتهون بمعركةٍ في سهول مجيدو في شمال إسرائيل، معركةٍ تُسمَّى هرمجِّدون. هذه المعركة والأحداث المحيطة بها ستؤدّي إلى حربٍ نوويّةٍ وتدخُّلٍ إلهيٍّ وإنشاء دولةٍ مسيحانيّةٍ عالميّة.
يقول ليندسي إنّ الكتاب المقدّس تتحدّث عن أربعة تحالفاتٍ دوليّةٍ ستغزو إسرائيل على التوالي. هذه الكتل الأربع هي تحالف الشّمال بقيادة روسيا، وهي كتلةٌ إفريقيّةٌ-عربيّةٌ بقيادة مصر، واتّحاد السّوق المشتركة بقيادة إيطاليا، والتّحالف الشرقيّ بقيادة الصّين. سترى روسيا حرباً مدّتها سبع سنوات وتُدمَّر بسبب الكوارث الطبيعيّة، وستظهر حكومةٌ عالميّةٌ بقيادة زعيمٍ يُدعى «المسيح الدجّال»، وسيعترف ١٤٤ ألف يهوديّاً مقيماً في القدس بطواعيّةٍ أنّ يسوع هو بالفعل المسيح، وهو دينٌ عالميٌّ مسكونيٌّ، وسيؤيِّد نبيٌّ كذّابٌ المسيحَ الدجّال، وسيُدمَّر الجّيش الصينيّ بطريقةٍ دمويّة.
الشخصيّة الحاسمة في كلّ هذا هو المسيح الدجّال، وهو قائدٌ صانعُ معجزات، سيأتي إلى السّلطة في موجةٍ من الفوضى. ستكون سياساته في البداية مفيدةً جدّاً لدرجة أنّ الأتقياء سيتبعونه على افتراضٍ خاطئٍ بأنّه يمثِّلُ البِرّ. وحكماً من القدس، سيؤسِّس نظاماً اقتصاديّاً عالميّاً متكاملاً يُحرَم فيه، مَن ليسَ لديهم ترخيصٌ رقميٌّ (رمز ٦٦٦ الشّهير)، من الحقّ في العيش. بعد سبع سنوات، سيقود يسوع بنفسه جيشاً ضدّه. سيُقتَل المسيح الدجّال والنبيّ الكذّاب في معركةٍ ويُسجَن الشّيطان (الّذي رعى صعوده إلى السّلطة). ستتبع ذلك الألفيّة -وهي حكم ألف سنةٍ من السّلام والعدالة.
نموذج فالويل: ربط فالويل، وهو من أشدّ المؤيِّدين للقضايا الإسرائيليّة، معتقداته المسيحيّة الصهيونيّة بدعمه لإسرائيل. في استمعي يا أمريكا! (١٩٨٠) اقتبس من سفر التّكوين ٢:١٢-٣ («[…] وأُبارك مباركيك وألعن لاعنيك») كدليلٍ على المسيحيّين ملزَمون بدعم اليهود وإسرائيل، ويؤكّد إيمانه بأنّ الله بارك أمريكا لأنّها باركت اليهود. في مناقشة «تلك المعجزة المسمَّاة إسرائيل» يشرح كيف تنبَّأ الكتاب المُقدَّس بوضوحٍ أنّه بعد أكثر من ألفيّ وخمسمائة سنة من الشّتات، سيعود الشعب اليهوديّ إلى أرض إسرائيل ويؤسِّس الأُمّة اليهوديّة مرّةً أخرى. على النقيض من ذلك، فإنّ منظمّة التّحرير الفلسطينيّة هم «قتلة» قد «يبتزّون» الولايات المتّحدة للتخلّي عن إسرائيل، وهو عملٌ من شأنه أنْ يستبدل موقعها في زعامة العالم بمكانٍ ما في كتب التّاريخ بجانب روما. حول ما إذا كانت هناك إمكانيّةٌ لعلاقاتٍ وثيقةٍ بين الولايات المتّحدة والدول «العربيّة المسلمة»، يقترح فالويل أنّه ليس هناك سببٌ لأنّ هذه الدّول «تقبل القيم الشّموليّة»، و«تُنكر أسلوب حياتنا الأساسيّ»، و«غريبةٌ» عن تقاليدنا اليهوديّة-المسيحيّة الديموقراطيّة. ويضيف في مكانٍ آخر اعتقاده بأنّ «تكوين ١٥ يرسم حدود إسرائيل». يحتوي تكوين ١٨:١٥-١٩ بالطّبع على العبارة التّالية: «لنسلك أُعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النّهر الكبير، نهر الفرات». ستشمل حدود «النيل إلى الفرات» الكثير من الأردن وسوريا والعراق ومصر، بما في ذلك مدينتيّ عمّان ودمشق.
وجهات النظر الرئاسيّة: على المستوى الرئاسيّ، كثيراً ما كان القادة الأمريكيّون ينظرون إلى اليهود على أنّهم «أهل الكتاب»، ورأَوا القوميّة اليهوديّة في هذا الإطار. تحدّث فرانكلين روزفلت عن تقاعده في العام ١٩٤٨ وتكريس حياته للتفاوض على إنشاء دولةٍ يهوديّةٍ في فلسطين. في الآونة الأخيرة، علّق جيمي كارتر أنّ إقامة دولة إسرائيل الحديثة هو تحقيقٌ لنبوءةٍ كتابيّة. على الرغم من أنّ كارتر جاء من تقليدٍ إنجيليّ، إلّا أنّه كرئيسٍ لم يشرحْ بالتفصيل أيّ معتقداتٍ مسيحيّةٍ صهيونيّةٍ، ولم يشرحْ سياساته باستخدام هذا الإطار. في مذكّراته الرئاسيّة، قال كارتر إنّ تراثه المعمدانيّ الجنوبيّ منحه «تقارباً» مع إسرائيل: «كانت الأخلاق اليهوديّة–المسيحيّة ودراسة الكتاب المُقدَّس روابطَ بين اليهود والمسيحيّين، الّتي كانت جزءاً من حياتي […] اعتبرتُ أنّ هذا الوطن لليهود متوافقٌ مع تعاليم الكتاب المقدّس، وهذا ما أَمَرَ به الله».
في المقابل، استخدم رونالد ريغين بشكلٍ متكرِّرٍ الصّور المسيحيّة الصهيونيّة لمناقشة الشّرق الأوسط. إحدى التّعليقات التي حَظِيَت باهتمامٍ كبيرٍ كانت موجَّهةً إلى توماس داين، رئيس لجنة الشّؤون العامّة الأمريكيّة الإسرائيليّة، وهي هيئة ضغطٍ مؤيِّدةٍ لإسرائيل: «كما تعلم، أعود إلى أنبيائك القدامى في العهد القديم والعلامات الّتي تُنبئ بها هرمجِّدون، وأجد نفسي متسائلاً عمّا إذا كنّا الجيل الّذي سيشهد ذلك. لا أعرف ما إذا كنتَ قد لاحظتَ أيّاً من هذه النّبوءات مؤخَّراً، لكن صدِّقني، إنّها تصف بالتأكيد الأوقات الّتي نمرّ بها».
يمكن إرجاع صعود الإسلام السياسيّ الفلسطينيّ إلى «النهضة الإسلاميّة» العامّة في السبعينيّات، والّتي اجتاحت جميع أنحاء العالم الإسلاميّ، على الرّغم من أنّها أصبحت أكثر وضوحاً في أواخر القرن العشرين، وأوائل القرن الحادي والعشرين. ففي الولايات المتّحدة، بدأ تأثير الأفكار المسيحيّة الإنجيليّة على السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة في ظلّ رئاسة جورج دبليو بوش، لكنّه وصل إلى ذروته في ظلّ إدارة الرّئيس الأمريكيّ السّابق دونالد ترامب. أمّا في إسرائيل، فقد تزايد حجم الجّناح اليمينيّ الدينيّ، بحيث شكّل جزءاً مهمّاً من حكومة نتنياهو السّابقة. فخلال العقود الماضية، تراجع اليمين المُتطرّف العلمانيّ القوميّ أمام نوعٍ أكثر دينيّاً من اليمين المتطرّف، مع تزايد الهجمات الجهاديّة، خاصّةً في الأراضي المحتلّة. كان هذا الاتّجاه واضحاً بشكلٍ مؤلمٍ عام ١٩٩٥، عندما عقدَتْ وسائل الإعلام اليهوديّة المتطرّفة ندواتٍ حول مسألةٍ ما إذا كان ينبغي إعدام إسحق رابين، وعندما أدان الحاخامات الأصوليّون بدورهم رئيس الوزراء، مُعلنين شرعيّة اغتياله، ممّا أدّى إلى العواقب الّتي نعرفها جميعاً.
يبدو الظلّ الّذي يلوّح في الأفق لصدام الحضارات أقرب من أيّ وقتٍ مضى.
لا يحلّ تأطير الصّراع في منظورٍ دينيٍّ المعضلة، بل يدفعها إلى طريقٍ مسدود. فلن يُضعِف الإسلام السياسيّ إسرائيل، بل سيثير ردود فعلٍ أشدّ. فسياسات الاستيطان والتّجانس الإسرائيليّة، لن تجعل الأمّة أكثر أماناً، بل تخلق بيئةً من انعدام الأمن المستمرّ في نظام الفصل العنصريّ غير الديموقراطيّ. ولن تحلَّ «صفقة القرن» الّتي وضعها ترامب خلافات الأطراف، بل ستؤدّي إلى تفاقم العنف في منطقةٍ مضطربةٍ بالفعل. ومن خلال فهم الصّراع على أنّه صراعٌ دينيّ، حوَّلته جميع الفصائل إلى معركةٍ كونيّةٍ لا يقلّ فيها الخصم عن شيطانٍ يجب تدميره. تقود إسرائيل وفلسطين والولايات المتّحدة نفسها إلى نقيض التّسوية السلميّة. ويبدو الظلّ الّذي يلوّح في الأفق لصدام الحضارات أقرب من أيّ وقتٍ مضى. فإذا لم تكن الأطراف قادرةً على تهدئة نفسها، فسيظلّ العنف، والكراهيّة، والألم، خبزهم اليوميّ لفترةٍ طويلة.
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.