
السابق تحيّةٌ للمدارس المسيحيّة في فلسطين والأردن- ترقَّبوا العدد الورقيّ والإلكترونيّ السّادس- من نشرة ملح الأرض رقم 198
بقلم جاك سارة
مترجم عن موقع Christian Daily
قبل بضعة أسابيع، ذهبتُ إلى عيادٍة طبيّةٍ في القدس لتلقّي لُقاحٍ قبل السّفر إلى أفريقيا. في غرفة الممرضة، بدأت امرأةٌ يهوديّةٌ تسألني أسئلةً حول رحلتي. أخبرتُها أنَّني قسٌّ مسيحيٌّ إنجيليٌّ ذاهبٌ إلى مؤتمرٍ دوليٍّ. على الفور، أومأت برأسها بعلمٍ وقالَتْ: “أجل، الإنجيليّون يُحبّون إسرائيل”.
شرحتُ لها أنَّ العديد من الإنجيليّين يدّعون بالفعل “حُبَّ إسرائيل”، ولكن غالبًا لأسبابٍ خاطئةٍ. ارتسمَتْ على وجهها علاماتُ الجدّيّة. شكرتني على قولي هذا، ثم قالَتْ: “كثيرٌ مِنّا، نحن اليهود، نشعر أنَّ هؤلاء الإنجيليّين يحبُّوننا لأسبابٍ خاطئةٍ. فبسبب آرائهم عن آخر الزّمان، يريدون جلبنا جميعًا إلى هُنا حتّى تأتي حربٌ عالميّةٌ، ونُقتَلَ، ويأتي مسيحهم”. توقَّفَتْ، ثمَّ عادت إلى ذهني صورةٌ آسرةٌ لن أنساها أبدًا: “يُشبه الأمر رجلًا يُسمِّن بطّةً، ويُطعمها يوميًّا ويعتني بها – ليس لأنَّه يُحبُّها، بل ليتمكَّن يومًا ما من ذبحها”.
تُجسّد كلماتها الشكّ العميق والقلق الّذي يشعر به كثيرٌ من اليهود تجاه حبّ الصّهيونيّة المسيحيّة الزّائف. هذا ليس حُبًّا متجذِّرًا في المسيح، بل في علمٍ مُتلاعِبٍ بالآخرة. قد يكون مُغلّفًا بلغة البركة، لكنّه في جوهره يُعامل الشَّعب اليهوديَّ كبيادق في مُخطَّطٍ نبويٍّ لشخصٍ آخر.
ومن المفارقات، أنَّه بعد أيّاٍم قليلةٍ فقط، شغّلتُ نشرة الأخبار الصباحيّة الإسرائيليّة، ورأيتُ أُسقفًا يُعلن نفسه إنجيليًّا يُجري مقابلة. كان يُعرب عن أسفه لفقدان إسرائيل دعمَها بين الإنجيليّين الشّباب. ووعدَ بحماسٍ بالعمل الجادِّ لإعادة جيل الشّباب، وتعليمهم “الصّلاة من أجل إسرائيل” وإظهار الولاء المُطلق، مهما فعلَتْ إسرائيل.
وعندما شاهدتُهُ، لم أستطع إلّا أنْ أشعر بالمفارقة المأساويّة: لقد افترض أنَّ الإنجيليّين سوف يظلّون صامتين بشأن الظُّلم، غير مُبالين بمعاناة الفلسطينيّين ــ المسيحيّين والمسلمين على حدٍّ سواء ــ وغير مُدركين لشهادة يسوع المسيح.
تُسلّط كلتا القصَّتين الضّوء على المشكلة نفسها. فالصّهيونيّة المسيحيّة ليسَتْ مُجرَّد شذوذٍ لاهوتيٍّ، بل هي حجر عثرةٍ أمام الإنجيل. فهي تُشوِّه الشّهادة المسيحيّة لليهود والمُسلمين وجميع شعوب الشّرق الأوسط.
الاهتمامات الكتابيّة واللّاهوتيّة
كثيرًا ما يستشهد المسيحيّون الصّهاينة بسفر التَّكوين ١٢:٣ (“سأباركُ مُباركيكم”) أو زكريا ١٤ لتبرير موقفهم. ومع ذلك، يُعيد العهد الجديد تفسير هذه الوعود في المسيح. يُصرُّ بولس على أنَّ نسل إبراهيم الحقيقيّ هو المسيح نفسه، وكلّ من ينتمون إليه بالإيمان ( غلاطية ٣:١٦ ، ٢٨-٢٩ ). وقد هُدم الجدار الفاصل بين اليهود والأمم في المسيح ( أفسس ٢:١٤ ).
إنَّ تطبيق الوعود الإقليميّة مباشرةً على دولة إسرائيل الحديثة يتجاوز الإنجيل. وكما كتب الرّسول بولس: “مهما تعدَّدَتْ وعود الله، فهي “نعم” في المسيح” ( كورنثوس الثّانية ١: ٢٠ ). وكما لاحظ اللّاهوتيّ غاري بيرج في كتابه “أرض مَن؟ وعد من؟” ، “الصّهيونيّة المسيحيّة تُعيد الكنيسة إلى ظلال العهد القديم، مُتجاهلةً تحقيقها الّذي جاء به المسيح”. (أرض من؟ وعد من؟). أعتقد أنَّ الآية في سفر التَّكوين 12: 3 تنطبق الآن فقط على يسوع والبركات الّتي تأتي من خلاصِهِ وتأثيره على الأمم وتوسُّع مملكته، لا أكثر ولا أحد آخر.
حجرُ عثرةٍ أمام الإنجيل
تكشف كلمات الممرِّضة اليهوديّة عن مدى زيف “حُبّ” المسيحيّين الصّهاينة. فبدلًا من فتح أبواب الإنجيل، يُرسِّخ هذا الحُبّ الشُّكوك. إذا كان الإنجيليّون يدعمون إسرائيل لمجرَّد إشعال فتيل حربٍ أهليّةٍ، فإنَّ “حُبّنا” ليسَ حُبًّا على الإطلاق، بل هو تلاعب.
عالِمُ العهد الجديد ستيفن سايزر في كتابه “الصّهيونيّة المسيحيّة: خارطة الطّريق إلى هرمجدون؟” ، “من خلال التَّرويج لدولة إسرائيل كضرورةٍ لاهوتيّةٍ، تعمل الصّهيونيّة المسيحيّة على منع الشَّعب اليهوديّ من اعتبار يسوع مسيحهم”.
إنَّ شهادة الإنجيل الحقيقيّة لا ينبغي أنْ تكون مُتشابكةً مع الأجندات السّياسيّة، بل يجب أنْ تُشير بوضوحٍ إلى يسوع، المسيح المصلوب والقائم.
لا تقتصر مُشكلة الشّهادة على اليهود فحسب. ففي جميع أنحاء العالم العربيّ والإسلاميّ، يُراقب النّاس كيف يتعامل المسيحيّون مع إسرائيل. وعندما يرون الإنجيليّين يؤيّدون القمع والقتل والتَّهجير والحرب، يستنتجون أنَّ المسيحيّة نفسها ظالمة.
هذا مُدمِّرٌ للتَّبشير. فبدلًا من سماع الأخبار السّارّة، يرى المُسلمون المسيحيّين يتحالفون مع من يضطهدون المُسلمين (من بين آخرين). وما دام المسيحيّون الصّهاينة يُدافعون عن سياساتٍ تضرُّ بالفلسطينيّين، فسينظرُ جيراننا المُسلمون إلى المسيحيّة وإنجيلنا على أنَّهما نِفاقٌ لا أمل.
خيانة الإنجيل للأمم
جسّد الأسقف التلفزيونيّ هذه الخيانة. فبوعده بالولاء المُطلق، اقترح على الإنجيليّين اختيار القوميّة بدلًا من تعاليم المسيح الواضحة. لكنَّ يسوع يدعونا إلى محبّة جيراننا ( لوقا ١٠: ٢٧ )، ومُباركة صانعي السّلام ( متّى ٥: ٩ )، والوقوف إلى جانب المظلومين ( إشعياء ١: ١٧ ).
إنَّ دعم الظُّلم باسم النبوة لا يشوِّه الإنجيل بالنّسبة لليهود والمُسلمين فحسب، بل بالنّسبة لدول الشَّرق الأوسط ككلّ.
نحن نخون الملكوت الّذي نُدعى لخدمته.
رسالة الكنيسة هي إعلان المصالحة من خلال الصّليب: “لأنَّه هو سلامنا، الّذي جعل الشَّعبين واحدًا، وهدم الحاجز، جدار العداء الفاصل” ( أفسس ٢: ١٤ ). عندما نستبدل هذه الرُّؤية بأجنداتٍ سياسيّة، فإنّنا نخون الملكوت الّذي دُعينا لخدمته.
دعوةٌ للعودة إلى الشّهادة المُتمركزة حول المسيح
إنَّ الطَّريق إلى الأمام ليسَ العَداء لإسرائيل وفلسطين، ولا اللّامبالاة بمعاناة الفلسطينيّين واليهود. بل هو دعوةٌ إلى شهادةٍ إنجيليّةٍ مُتمركزةٍ حول المسيح، تُحبُّ جميع النّاس – يهودًا ومسلمين وكلَّ إنسانٍ – دون مُساومة.
يجب علينا أنْ نرفض مُخطّطات نهاية العالم الّتي تستخدم النّاس كأدوات، وأنْ نعود إلى الإنجيل الّذي يعلن أنَّ يسوع هو ربُّ الجميع.
حينها فقط سيكون حبُّنا صادقًا. حينها فقط ستكون شهادتُنا نزيهةٌ أمام جميع الأمم. حينها فقط سنُجسِّد رسالة الملكوت: المحبّة والعدل والسَّلام والمصالحة في المسيح.
************************************************************
القسّ الدُّكتور جاك سارة هو رئيس كلّيّة بيت لحم للكتاب المُقدّس . وُلِدَ جاك ونشأ في البلدة القديمة في القدس، ودرس في كلّيّة بيت لحم للكتاب المُقدّس بعد أن كرّس حياته للمسيح وتعاليمه. جاك قسٌّ مُرسومٌ في كنيسة التّحالُف الإنجيليّ في الأرض المُقدّسة، حيثُ لا يزال يُشرف على قيادة الكنائس. وهو الأمين العامُّ للتّحالُف الإنجيليّ في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويعمل بكثافةٍ في مجالات السِّلام والمُصالحة.
تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!