
السابق كنيسة “فلسطين” بدل “الأراضي المُقدّسة”

خاص- ملح الأرض
قال الباحث مراد الزير معد دراسة بحثية بعنوان “الحركة الفكرية والثقافية لمسيحيي القدس في القرن العشرين” إن تخصيص دراسة مستقلة تحت هذا العنوان جاء لإبراز هذا الجانب والذي يعكس طبيعة علمية متخصّصة تهدف إلى توثيق الدور لا إلى تمييز الفئة. موضحا أنها كانت فرصة لتصحيح المفاهيم التي اختزلت حضور المسيحيين المقدسيين في إطار ضيّق.
وصرّح الباحث لـ ملح الأرض: المسيحيّون في القدس لم يكونوا جماعة هامشية، بل جزءاً أصيلاً من النسيج الوطني والنهضوي الفلسطيني، أسهموا في صياغة الفكر المعاصر، وشاركوا بفاعلية في مقاومة المشروع الصهيوني ثقافياً وفكرياً.
وحول انطلاق الدراسة التي أصدرتها الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، وضّح الزير أنها انطلقتُ من قناعة علمية راسخة بأن البحث الأكاديمي لا يُبنى على الانحياز أو الفئوية، بل على إبراز الحقيقة ضمن سياقها الموضوعي الشامل، ولذلك لم يكن هدفي تفضيل فئة على أخرى، وإنما إظهار مساهمة مكوّن أساسي من مكونات الهوية الفلسطينية الجامعة، باعتباره شريكاً أصيلاً في مسيرة النضال والنهضة.
وتوصلت الدراسة إلى أن مسيحيي القدس قد وظفوا فكرهم السياسي باختلاف توجهاتهم في مناهضة المشروع الصهيوني والهجرة اليهودية، وبرزوا في تقديم تجاربهم في إنشاء المراكز وإصدار الصحف والمؤلفات، وفي خدمة المجال التعليمي التربوي والطبي والحقوقي.
وتابع لـ ملح الأرض “لقد جاءت فكرة هذه الدراسة استجابةً لنداء بحثي ركّز على مكانة المسيحيين في القدس ودورهم الفكري والوطني، إذ غالباً ما ينظر الغرب إليهم على أنهم أقلية ذات طابع ديني أو كنسي محض، دون الالتفات إلى عمق إسهامهم في الحياة الثقافية والسياسية الفلسطينية”.
“وبوصفي باحثاً مهتماً بتحليل التاريخ الثقافي والفكري، سعيتُ إلى توظيف أدواتي البحثية ومنهجي التأريخي لتحقيق غاية معرفية واضحة: أن أعيد قراءة الدور التاريخي لمسيحيي القدس بوصفهم شركاء حقيقيين في صناعة النهضة الفكرية والثقافية والوطنية في فلسطين، وأن أُعيد تقديمهم كما كانوا دائماً — ضميراً وطنياً نابضاً وركيزةً أساسية في الوعي الفلسطيني”.
وحول الهدف الرئيس من الدراسة أوضح الزير لـ ملح الأرض أن الهدف الأساسي هو إبراز الدور الفكري والثقافي لمسيحيي القدس خلال القرن العشرين ضمن إطار شامل يُعيد قراءة حضورهم في الحياة الوطنية الفلسطينية.
وتابع “لقد لاحظتُ من خلال اطلاعي على الأدبيات الأكاديمية أن هناك بالفعل دراسات تناولت شخصيات مسيحية مقدسية بعينها — كمفكر أو أديب أو ناشط — لكنها بقيت محصورة في إطار فردي أو سير ذاتية محدودة، ولم تقدّم صورة كلية متكاملة توضح حجم الإسهام الجماعي للمسيحيين المقدسيين في صياغة المشهد الثقافي والفكري الفلسطيني. من هذا المنطلق، جاءت الدراسة لتملأ هذه الفجوة المعرفية عبر مقاربة شمولية تُبرز التنوّع والغنى داخل التجربة المسيحية في القدس، وتربط بين رموزها الفكرية والثقافية وبين التحولات الكبرى التي شهدتها المدينة خلال القرن العشرين، فقد سعيتُ من خلال الدراسة إلى توثيق هذا الدور ضمن السياق الوطني العام، لا باعتباره تجربة دينية، بل كجزء من المسار الحضاري الفلسطيني.
وعند سؤال الباحث حول شكل التعاون مع الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات في إعداد ونشر هذه الدراسة، قال لـ ملح الأرض: جاء التعاون من خلال صديقي وزميلي الدكتور جورج أبو الدنين، الذي سبق وأن عملتُ معه في عدد من المشاريع البحثية والتوثيقية، وكان بيننا تنسيق مستمر في القضايا المرتبطة بالتاريخ الشفوي والذاكرة الفلسطينية. ” فقد أخبرني الدكتور جورج بنداء بحثي صادر عن الهيئة يدعو إلى معالجة أبرز الفجوات المعرفية المتعلقة بتاريخ القدس ومكوناتها الاجتماعية والثقافية، وكان أحد هذه المحاور يدور حول الحضور المسيحي المقدسي ودوره في المشهد الفكري والثقافي، وهو ما وجدته مجالاً يتقاطع مع خبرتي السابقة في إعداد الموسوعة المسيحية للأعلام الوطنية.”
وركّز الباحث الزير أن اختياره للمشاركة في هذا المشروع نابعاً من إيمانه بأهمية الجهد المؤسسي في دعم الدراسة العلمية المتخصصة، خاصة حين يأتي من مؤسسة وطنية تجمع في اسمها البعدين الإسلامي والمسيحي معاً، وتعمل من أجل القدس باعتبارها قضية جامعة لكل الفلسطينيين.
وقال “فقد وفّرت الهيئة من خلال هذا التعاون الإطار الداعم لنشر الدراسة، واحتضنت المشروع ضمن رؤيتها الهادفة إلى تعزيز الوعي التاريخي والفكري حول التعددية المقدسية ووحدة المجتمع الفلسطيني. لقد شكّل هذا التعاون أنموذجاً حقيقياً للتكامل بين الباحثين والمؤسسات الوطنية، وأكّد أن الدفاع عن القدس لا يتم من منطلق ديني أو فئوي، بل من منطلق وطني فكري وإنساني مشترك، يجمع كل من يسعى لحماية ذاكرة المدينة وتاريخها من محاولات الطمس أو التشويه.
وحول مخرجات الدراسة وابرز نتائجها تحدث الزير لـ ملح الأرض “تبيّن لي أن المسيحيين المقدسيين كانوا أحد ركائز النهضة الفكرية والثقافية الفلسطينية، وأن حضورهم لم يكن هامشياً أو عرضياً، بل أساسياً ومؤثراً في تشكيل الوعي الوطني العام. لقد لعبوا دوراً فاعلاً في بناء المشهد الثقافي في القدس وفلسطين، وأسهموا بوضوح في مجالات التعليم والصحافة والأدب والفن والموسيقا، وكان تأثيرهم يتجاوز البعد المحلي ليشكّل ملامح النهضة العربية في بدايات القرن العشرين، ففي مجال الصحافة والإعلام، برزت أسماء مثل بولس شحادة مؤسس جريدة مرآة الشرق التي كانت منبراً وطنياً وثقافياً رائداً، وخليل السكاكيني الذي مثّل أنموذجاً للمثقف المقدسي المنفتح على الفكر القومي والإنساني، وفي مجال التعليم والفكر التربوي، أما في الفنون والآداب، فقد أبدع فنانون وموسيقيون ومصوّرون مثل هاني جوهرية وكمال بُلّاطة وواصف جوهرية في تحويل الفن إلى أداة مقاومة ثقافية تحفظ الذاكرة الفلسطينية وتوثّق تفاصيل الحياة في القدس.
ومن أبرز النتائج التي توصّلت إليها أيضاً أنّ الحركة الفكرية المسيحية المقدسية كانت جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية الكبرى، ولم تكن معزولة أو ذات طابع ديني مغلق، بل انطلقت من رؤية إنسانية ووطنية تؤمن بالتعايش وتوحيد الجهود في مواجهة الاستعمار والمشروع الصهيوني.

كما أن الخطاب الفكري المسيحي في القدس لم يكن خطاباً طائفياً، بل خطاباً نهضوياً وحداثياً، ركّز على التعليم والمعرفة والتنوير، وأسّس لجيل من المثقفين الذين حملوا همّ الوطن بوعي ومسؤولية، كما كشفت الدراسة عن أن هذه النخبة الفكرية لم تقتصر على نخبة محدودة، بل امتدت عبر أجيال متعاقبة حافظت على هذا الدور، فساهمت في الصحافة الحديثة، والمراكز الثقافية، والجمعيات الوطنية التي استمرت في نشاطها رغم التحديات السياسية والاجتماعية.
وفي معرض اجابته عن إسهام مسيحيو القدس في مواجهة المشروع الصهيوني والهجرة اليهودية خلال القرن العشرين قال: “لقد كان للمسيحيين المقدسيين دور ريادي في المقاومة الفكرية والسياسية ضد المشروع الصهيوني والهجرة اليهودية إلى فلسطين، فمنذ بدايات القرن العشرين، ظهرت شخصيات مسيحية كانت من أوائل من حذّروا من هذا المشروع، مثل نجيب عازوري الذي كتب مبكراً عن خطر الصهيونية على مستقبل الأمة العربية، وخليل السكاكيني الذي تناول فكرها بالنقد العميق وربطه بالاستعمار الغربي.
كما شارك بعضهم في النشاط السياسي المباشر، مثل بولس شحادة الذي انخرط في الأحزاب الوطنية، ووليم نصّار الذي انضم إلى صفوف حركة فتح وأسهم في تأسيس اتحاد الطلبة الثائر في لبنان، وزهدي ترزي الذي مثّل منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة، وعفيف صافية الذي شغل مناصب دبلوماسية مهمة للدفاع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
وتابع:لقد استخدم هؤلاء أدوات الفكر والسياسة والدبلوماسية كسلاح حضاري لمواجهة الاحتلال، معتبرين أن الدفاع عن القدس لا يقتصر على البعد العسكري، بل يمتد إلى بناء الوعي الوطني ومواجهة الرواية الصهيونية علمياً وثقافياً، إذ إنّ مساهماتهم الفكرية والإعلامية والتعليمية أثبتت أن المقاومة لا تنحصر في البندقية، بل تبدأ من الفكرة والكلمة والموقف، وهذا ما جعل من المسيحيين المقدسيين أحد أهم أعمدة المواجهة الفلسطينية خلال القرن العشرين.


تكافح مجلة “ملح الأرض” من أجل الاستمرار في نشر تقارير تعرض أحوال المسيحيين العرب في الأردن وفلسطين ومناطق الجليل، ونحرص على تقديم مواضيع تزوّد قراءنا بمعلومات مفيدة لهم ، بالاعتماد على مصادر موثوقة، كما تركّز معظم اهتمامها على البحث عن التحديات التي تواجه المكون المسيحي في بلادنا، لنبقى كما نحن دائماً صوت مسيحي وطني حر يحترم رجال الدين وكنائسنا ولكن يرفض احتكار الحقيقة ويبحث عنها تماشيًا مع قول السيد المسيح و تعرفون الحق والحق يحرركم
من مبادئنا حرية التعبير للعلمانيين بصورة تكميلية لرأي الإكليروس الذي نحترمه. كما نؤيد بدون خجل الدعوة الكتابية للمساواة في أمور هامة مثل الإرث للمسيحيين وأهمية التوعية وتقديم النصح للمقبلين على الزواج وندعم العمل الاجتماعي ونشطاء المجتمع المدني المسيحيين و نحاول أن نسلط الضوء على قصص النجاح غير ناسيين من هم بحاجة للمساعدة الإنسانية والصحية والنفسية وغيرها.
والسبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو بالتواصل والنقاش الحر، حول هويّاتنا وحول التغييرات التي نريدها في مجتمعاتنا، من أجل أن نفهم بشكل أفضل القوى التي تؤثّر في مجتمعاتنا،.
تستمر ملح الأرض في تشكيل مساحة افتراضية تُطرح فيها الأفكار بحرّية لتشكل ملاذاً مؤقتاً لنا بينما تبقى المساحات الحقيقية في ساحاتنا وشوارعنا بعيدة المنال.
كل مساهماتكم تُدفع لكتّابنا، وهم شباب وشابات يتحدّون المخاطر ليرووا قصصنا.
No comment yet, add your voice below!